تدفعنا الثَّورات الاجتماعيَّة والشَّعبيَّة الأخيرة التي قام بها أساسًا الشَّباب، وشَمِلَتْ بحراكها العام مختلف أركان المُجتمعات العربيَّة، وأدَّتْ إلى تغيير الكثير من معالم القديم؛ إلى أهمِّيَّة بحث مسألة التَّنشئة السِّياسيَّة للفرد المسلم، وخصوصًا الشَّباب، بعد عقودٍ طويلةٍ من التَّغييب، بما أدَّى إلى نوعٍ من أنواع التَّدجين السِّياسيِّ، وبالتالي اتِّهام الشَّباب العربيِّ والمسلم بالسَّلبيَّة وعدم القُدرة على القيام بأعباء الفعل الإصلاحيِّ المنشود في بلداننا العربيَّة والإسلاميَّة.
ومِن ثَمَّ، وفي ظلِّ التَّطوُّرات الحالية المُتلاحقة التي تشهدها المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة في الوقت الرَّاهن، من ثوراتٍ اجتماعيَّةٍ ومُتغيِّراتٍ سياسيَّةٍ، والتي أُضيفت إلى تأثيرات الصَّحوة الإسلاميَّة العميقة التي بدأت قبل سنواتٍ في إتيان ثمارها، فقد بات واجب السَّاعة الأساس هو التَّفكير في كيفيَّة تحقيق تنشئةٍ سياسيَّةٍ سليمةٍ للفرد في المجتمع المسلم، بما يتضمَّن محو الكثير من الآثار السَّلبيَّة التي نتجَتْ عن عقودٍ طويلةٍ من الحكم الدِّيكتاتوريِّ العلمانيِّ، أدَّتْ إلى نشوء أجيالٍ لا تعرف شيئًا عن أبسط مفاهيم العمل السِّياسيِّ وأصول الممارسة السِّياسيَّة، فضلاً عن أنْ تعلم شيئًا عن قضايا أمَّتها، وكيف تتعامل معها، وما هي واجباتها تجاهها.
وأوَّل قواعد التَّنشئة السِّياسيَّة السَّليمة، هي أنْ يعرف الإنسان المسلم ما هي الذَّات السِّياسيَّة التي ينبغي أنْ يكون عليها، وهي مِن أهمِّ القواعد العامَّة في الفهم الإنسانيِّ في أيِّ أمرٍ مِن الأمور، وليس في هذه المسألة فحسب؛ حيث ضرورةُ إدراك الأوَّليَّات والعموميَّات والأمور الكُلِّيَّة كمُفتاحٍ مهمٍّ وبوابةٍ رئيسيَّةٍ لفهم الجزئيَّات وإدراكها.
وعند الحديث عن مفهوم الذَّات السِّياسيَّة يتبادر إلى الذِّهن أوَّل ما يتبادر أنَّه مفهومٌ مُتعدِّد الأبعاد تُشكِّل فيما بينها الشخصيَّة السِّياسيَّة التي تميِّز فردًا ما أو جماعةً بشريَّة ما، مثل أجندة الغايات والأهداف لدى الفرد والجماعة، وكذلك المنظومة القيميَّة التي تحكم الإنسان وجماعته التي ينتمي إليها، وغير ذلك.
وعند الحديث عن الذَّات لدى الفرد في جماعةٍ مسلمةٍ، يأخذ الحديث عن هذه الأبعاد المتعدّدة شكلاً مُتفرِّدًا على فرادةِ الأجندة واتساعها، ونُبْل الأهداف والغايات.
وتحت تأثير العقود الطَّويلة التي مضَتْ مِن الحُكم العلمانيِّ، والقرون التي سبقتها من استعمارٍ أجنبيٍّ عمل بوحشيَّةٍ على القضاء على هُويَّة الأُمَّة، وتغيير مضامين ضميرها وعقلها، مِن أجل ضمان عدم نهوضها مرَّةً أخرى، ظهرَتْ العديد مِن الجماعات والحركات الإسلاميَّة السِّياسيَّة الطَّابع وذات العمق الاجتماعيِّ والجماهيريِّ، وخصوصًا بعد نَحر الخلافة العثمانيَّة في الرُّبع الأوَّل من القرن العشرين، عمِلت على رسم معالم شخصيَّة المسلم، وخصوصًا في جوانبها الأخلاقيَّة وكذلك السِّياسيَّة منعًا لذوبانها وانتهائها بشكلٍ كاملٍ في ظلِّ تأثيرات الاستعمار وعقود الحكم العلمانيِّ القمعيِّ المستبد، والذي كان مِن مصلحته قتل أيَّة محاولاتٍ لتحقيق صحوةٍ سليمةٍ في المجتمعات المسلمة للحفاظ على كرسيِّ الحُكم.
وكان نتيجة ذلك انهيارٌ أخلاقيٌّ وسياسيٌّ وتنمويٌّ كاملٌ، إلاَّ مَن رحم ربِّي، كما في حالة تجربة جماعة الإخوان المسلمين.
ولا يمكن النَّظر إلى قضيَّة صناعة الذَّات السِّياسيَّة على اعتبار أنَّها لونٌ من ألوان التَّرَفِ الفكريِّ أو الثَّقافيِّ، أو أنَّه أمرٌ يمسُّ الفرد فحسب؛ حيث إنَّه أمرٌ يمسُّ صميم حياة المجتمعات الإسلاميَّة، وبالتَّالي مستقبل الأُمَّة، ومن بين أهمِّ القضايا التي ترتبط بهذه الجزئيَّة أو هذه المسألة قضيَّة مُشاركة التيارات والحركات الإسلاميَّة في الحياة السِّياسيَّة في بلدانها.
فلعقودٍ طويلةٍ مَضَتْ مِن الحُكم العلمانيِّ والاستبداديِّ؛ ظلَّ الإسلاميِّين في الغالب خارج إطار المُشاركة الطَّبيعيَّة في العمل السِّياسيِّ، وكانت مشاركتهم إمَّا في حدود ما تمنحه إياهم الأنظمة الحاكمة، أو في صورةٍ أو من خلال مساراتٍ غير السَّليمة بسبب غياب إمكانات ومسارات المُشاركة السَّليمة.
وهذا الغياب أو التَّغييب، بالرَّغم مِن أنَّه كان في كثيرٍ من جوانبه راجعًا إلى عوامل تخرج عن إرادة الإسلاميِّين، بسبب سياسات الإقصاء والتَّهميش الممنهجة التي تبنَّتها النُّظم السِّياسيَّة الحاكمة؛ إلا أنَّه في جزءٍ كبيرٍ منه يعود إلى عدم إدراك الكثير مِن المجموعات الإسلاميَّة لطبيعة الأهداف والوسائل؛ بل عدم إدراك الكثير من الإسلاميِّين لماهيَّة مفهوم الذَّات السِّياسيَّة، والذي يُعدّ الأساس الذي يتحرَّك عليه الفرد والجماعة بعد ذلك، تمامًا مثل المنطق بالنسبة للرِّياضيَّات البحتة؛ فلولا المنطق ما كانت الرِّياضيَّات البحتة وما كانت بالتالي مختلف العلوم الطَّبيعيَّة.
ومِن خلال البيئة التي تشكَّلت فيها شخصيَّة الفرد المسلم داخل هذا الإطار، وطبيعة روافد هذه الشَّخصيَّة، يمكن إجراء "التَّشريح" المبسَّط التَّالي للذَّات السِّياسيَّة للفرد والجماعة المسلمة:
أولاً: الرَّوافد الفكريَّة:
ويُقصَدُ بها المكوِّنات التي تساهم في رسم تفكير الفرد والجماعة المسلمة وقيمها، والأصول التي تُحدِّد مسارات حركة الفرد والجماعة، وتكوِّن نهجه ونهجها، الذي يسيرون عليه، وهي أساسًا القرآن الكريم وصحيح السُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة، ومنهج السَّلف الصَّالح منذ الخُلفاء الرَّاشدين المهديِّين، وجميع الأئمة المُجدِّدين من بعدهم.
ويضاف إلى ذلك التُّراث السِّياسيُّ والفكريُّ الإسلاميُّ الصَّحيح الذي يعكس الفكر والرُّوح الإسلاميَّة السَّمحاء القائمة على العدل والحنافة، ومن بينها، كما هو في حالة جماعة الإخوان المسلمين، منهج الإمام الشَّهيد المُؤسِّس حسن البنا، كما ورد في مقالاته ورسائله ودراساته، وفي خطبه وكلماته.
ثانيًا: الرَّوافد القيميَّة:
ويقصد بها القيم التي يجب أنْ تطبع سلوك الفرد المسلم والجماعة المسلمة عملاً لنُصرة الدِّين والدَّعوة، وإحياء خيريَّة الأُمَّة، وهي تنقسم بدورها إلى فئاتٍ فرعيَّةٍ، من بينها العقائد، والتي تشمل الإيمان بروافده السِّتَّة: الله الإله الواحد الأحد.. الملائكة.. الكتب السَّماويَّة، وأعظمها القرآن الكريم.. الأنبياء والرُّسُلِ، وخاتمهم مُحَمَّدًا - صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم-.. يوم القيامة.. القضاء والقدر خيره وشرِّه.
وتتضمَّن أيضًا الأخلاق والقِيَمِ العامَّة، وتشمل مكارم الأخلاق، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، والتَّضحية، والطَّاعة.
ثالثًا: الأهداف والغايات:
ويُقصَد بها الأجندة التي يتحرَّك من خلالها الفرد والمجموع في الجماعة المسلمة، وبالرَّغم مِن أنَّها تختلف باختلاف الزَّمان والمكان، إلا أنَّ هناك أطراً عامَّةً تحكمها، وعناوين كبرى تضمّها جميعًا.
فعلى الجانب السِّياسيِّ والاجتماعيِّ الدَّاخليِّ هناك الإصلاح بمجالاته المُختلفة، والسَّعي إلى إقامة شريعة اللهِ في الأرض، وكذلك مُحاربة الفساد، من أجل الغاية الأساسيَّة، وهي الوصول إلى الحكم الإسلاميِّ.
أمَّا على الجانب السِّياسيِّ الخارجيِّ، فهناك أوَّلاً هدفٌ يتعلَّق بنشر الدِّين الإسلاميِّ خارج أرضه، وتحسين العلاقة بين البلدان المسلمة، وكذلك الاهتمام بالمسلمين في البلدان التي يعيشون فيها كأقلِّيَّاتٍ، وهي كلُّها أهدافٌ ذات طبيعةٍ مرحليَّةٍ أو تكتيكيَّةٍ.
أمَّا الأهداف العُظمى ذات الطَّبيعة الإستراتيجية، فإنَّه يأتي على رأسها محاولة استعادة وحدة الأُمَّة وإعادة الخلافة الإسلاميَّة، ثُمَّ السَّعي إلى نشر دين اللهِ تعالى، الإسلام، في ربوع العالم كلِّه، أو تحقيق أستاذيَّة العالم، كما تحدَّث عنها الإمام البنَّا رحمه الله تعالى.
أمَّا على الجانب الدَّعويِّ والتَّربويِّ الأخلاقيِّ، فهناك أهدافٌ تتعلَّق بناء الفرد المسلم، وبناء الأسرة المسلمة من أجل تأسيس المجتمع المسلم وتحسين الصُّورة الذِّهنيَّة عن الإسلام داخل وخارج أرضه.
رابعًا: البيئة:
ويقصد بها الوسط المحيط بالفرد والجماعة المُسلمَيْن، والتي تلعب دورها في تشكيل الذَّات السِّياسيَّة لدى المسلم، وهي يجب أنْ تتوافر فيها مجموعةٌ من الاشتراطات، على رأسها أنْ تكون بيئةً اجتماعيَّةً مُسلمةً، ومُحافظةً، يعمل فيها الفرد والجماعة على مواجهة المفاسد الأخلاقيَّة المُحيطة، وتحصين النَّفس ضدها.
وفي الأخير، نشير إلى أنَّ هناك حقيقتَيْن مهمَّتَيْن يجب إدراكهما، وهو أنَّ الفرد المسلم والجماعة المسلمة لا يزالان يتحرَّكان في بيئةٍ معاديةٍ مهما تكلمنا عن تأثير الصَّحوة الإسلاميَّة والمُتغيِّرات الأخيرة الواقعة في مجتمعاتنا العربيَّة والإسلاميَّة، وأنَّ هذا الأمر يجب أنْ توضع عمليَّة إصلاحه على أجندة أولويَّات الجماعة المسلمة.
أمَّا الحقيقة الثانية فهي أنَّ كلَّ ذلك لا يُمكن أنْ يتحقَّقَ إلا من خلال التَّربيَّة.. التَّربية الفكريَّة والأخلاقيَّة والرَّياضيَّة السَّليمة للفرد المسلم.
وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ لهذه المدركات أهمِّيَّةٌ بالغةٌ فيما سبق وأنْ أشرنا إليه في صدد قضيَّة مشاركة الإسلاميِّين في الحياة السِّياسيَّة؛ حيث إنَّ أوَّل خطوات المشاركة السَّليمة هو الإدراك.. إدراك حقيقة الأدوار المطلوبة والأدوات والوسائل الأنسب للفعل السِّياسيِّ والمُشاركة السِّياسيَّة، ثُمَّ التَّحرُّك بعد ذلك وفق ما تقتضيه المصلحة، وهو أيضًا ما يتطلَّب الكثير من الفهم للأهداف والغايات الواجب العمل عليها، والوسائل المُستَخدمة في ذلك على النَّحوِ المُشار إليه.
وهو في حقيقة الأمر ما يرتبط بالكثير مِن السُّنن الإلهيَّة في سعي الإنسان في الأرض؛ فنجاح مسعى الإنسان في الحياة الدُّنيا مرتبطٌ تمام الارتباط بمسألة فهمه لذاته وللكون من حوله ولرسالته فيه، وكيفيَّة تحقيقه لمستهدفاته.
ومِن ثَمَّ، وعلى المستوى التَّطبيقيِّ؛ فإنَّ الفرد المسلم والجماعة المسلمة عليهم الكثير من الواجبات في هذه المرحلة، وعلى رأسها، أوَّلاً تأهيل الفرد والجماعة، ومِن ثَمَّ بعد ذلك العمل على توجيه حركة الفرد والجماعة بما يخدم الرِّسالة في المجتمع المسلم، مع التَّدرُّج في مُخاطبة المُجتمع بشرائحه وأطيافه المُختلفة، واستخدام لغةً تناسب كل طيفٍ وشريحةٍ منها، مع الوضع في الاعتبار أنَّ عقود الإقصاء والتَّهميش السَّابقة قادَتْ إلى الكثير مِن التَّشويه أو على الأقل الخلط وعدم المعرفة لدى الجماهير العاديَّة حول الإسلاميين وما اصطلح على تسميته بحركات الإسلام السِّياسيِّ.
ولذلك فإنَّ هناك ضرورةً لتقديم نماذج إيجابيَّةٍ أمام الجمهور العادي، وكذلك تقبُّل النَّقد بصدرٍ رحب والرَّدُّ على كلِّ الأسئلة، مهما كانت، مع التَّنوير المُستمر والمُتواصل، مع العمل في صفوف الجماهير في مختلف المجالات، الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والاقتصاديَّة بما يكرِّس فكرة الأصلح لدى الجمهور العادي فيما يتعلق بنظرته إلى الإسلاميين أو الجماعات والحركات الإسلاميَّة السِّياسيَّة أيًّا ما كان المصطلح المستخدَم.
وفي الأخير؛ فإنَّ حِراك التَّغيير الشَّعبيِّ الأخير الذي يجتاح عالمنا العربيِّ، ومن قبله الصَّحوة الإسلاميَّة التي بدأت في عالمنا الإسلاميِّ، قد وفَّرَتْ البيئة الخصبة للعمل والحركة، وهو ما أتى ثماره بالفعل في مجتمعات عربيَّةٍ وإسلاميَّةٍ عديدةٍ تولَّى فيها أصحاب النَّظريَّة السِّياسيَّة الإسلاميَّة الحكم، كما في تركيا وفلسطين والسُّودان، وهو ما يجب أنْ يعمل الباقون في الدِّول العربيَّة والإسلاميَّة الأخرى على الاستفادة من الظُّروف المُستجدَّة التي خلقها الأوضاع المُتغيِّرة في عالمنا العربيِّ والإسلاميِّ.