لقد كان القدر أن نعيش تفاصيل حياة النَّبي صلَّى الله عليه وسلّم من خلال الإبحار في سيرته العطرة، والتي مثلت فصولاً طويلة ما بين العمل الدَّعوي، مروراً بالنشاط الاجتماعي، والتربع على عرش الجهاد، وصولاً للعمل السياسي وبناء الدولة، انتهاءً بسيادة الدنيا، محطات بارزة في تاريخ الإسلام العظيم.
لكن من رحمة الله أن نعيش مع النموذج ذاته، ومع الفصول ذاتها "مع الاحتفاظ بالفروق" التي تتكرر اليوم مع الحركة الإسلامية في فلسطين؛ فها نحن نعيش مع حماس، وما أدراك ما حماس؛ حيث إنَّ الكثيرين من علماء الأمَّة يجمعون على أنَّ "حماس" مثلت تحوّلاً في أداء الحركات المقاومة الفلسطينية ونجحت في جميع محطاتها كجماعة دعوية وحركة مقاومة ورائدة للعمل السياسي والبرلماني والحكومي، حافظت على الثوابت وبقيت عصية على الضغوط والتجاذبات ومحاولات الاحتواء وحرف المسار.
وفي هذه الوقفة البسيطة نحاول أن نضع أيدينا على أبرز المحطات التي التقت بها حماس خلال مسيرتها مع دعوة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، لما يمثل هذا الأمر من تحريك للطاقات الكامنة، ويريح النَّفس في وقت اختلطت فيه القيم والمفاهيم، وبات الكثيرون متردّدين بين صواب المنهج وبين حسن المسير.
تمثل السنوات الأولى من حياة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم المرحلة الأهم في بناء الفرد المسلم استعداداً لمرحلة المجتمع المسلم، وقد مرَّ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم في هذه المرحلة بالكثير من المحطات المهمَّة، والتي تفاوتت بين التعذيب والترغيب، وصولاً للهجرة للحبشة، مروراً بالعمل السري والدَّعوة السرية في بيت الأرقم ابن أبي الأرقم.
لقد كان نزول الوحي على النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم هو بداية مرحلة جديدة في حياة الأمَّة، وإعلان انطلاقة واعدة لأمَّة سادها الظلم والجهل والعصبية القبلية، وكانت أولى خطوات النَّبي صلَّى الله عليه وسلّم أن دعا إلى دعوته أقرب النَّاس إليه امتثالاً لقوله تعالى:{وأنذر عشيرتك الأقربين}.
وهكذا كانت انطلاقة الحركة الإسلامية في فلسطين عام 87 بمنزلة منعطف مهم في تاريخ القضية الفلسطينية، والتي كانت تمرّ في أبرز مراحلها، فالعلمانية والشيوعية كانت تحاول السيطرة على زمام الأمور في فلسطين، وإرهاصات التنازل كانت واضحة على منظمة التحرير.
لقد مثلت انطلاقة الحركة بداية عهد جديد في العمل الإسلامي، وكانت أولى المراحل التي قام بها الشيخ الشهيد أحمد ياسين وإخوانه دعوة الأقربين من الأهل والأصدقاء لفكر الحركة منتهجين ذات المنهج النبوي.
لقد شكلت انطلاقة الدعوة الإسلامية ضربةً قوية لقريش وللكفار والذين حاولوا منذ اللحظة الأولى ضرب الدَّعوة الإسلامية من خلال تعذيب النّبي صلى الله عليه وسلّم وتكذيبه ووصفه بالمجنون تارةً والسَّاحر تارة أخرى، ووضع النفايات أمام بيته وعلى ظهره صلَّى الله عليه وسلَّم.
وهكذا كانت انطلاقة حماس، والتي شكلت صدمةً للجميع، فبينما كان الجميع يعد العدة لتصفية القضية الفلسطينية، مثلت انطلاقة حماس حجر العثرة في وجه دعاة الانهزام والاستسلام، ممَّا دفع الصَّهاينة لمحاولة وأد الحركة الإسلامية في مهدها، ففي العام 89 كانت أول وأقوى ضربة توجه لقيادة الحركة وأركانها؛ حيث أودعت قيادة الحركة السجون، لكنَّ الدعوة استمرت في عطائها وقيادتها لانتفاضة الحجر.
وبعد خمسة أعوام من دعوة النَّبي صلَّى الله عليه وسلّم الناس للإسلام، ودخول أعداد كبيرة في هذا الدِّين الجديد، لم تتوقف المضايقات والملاحقات من قريش للمسلمين في محاولة منهم لإجبارهم على التَّراجع عن دينهم أو الرحيل والإبعاد عن قريش، حتى كان (العام الخامس من بعثة النبي)؛ إذ قرَّر عددٌ من صحابة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم الهجرة إلي الحبشة فارّين بدينهم فكانت أول هجرة في الإسلام، لكن هذا الإبعاد وهذه الهجرة مثلت انتصاراً لدين؛ حيث استطاع المسلمون نشر دينهم في الحبشة، وتعريف الناس بالدين الجديد، فكان بلال الحبشي خير مثال على هذا النجاح لهذه الطائفة المؤمنة.
وكذا كان الأمر في فلسطين فبعد ( خمسة أعوام ) على انطلاقة حماس، وكلّ ما تعرضت له الحركة وأبناؤها كان قرار الصهاينة بتهجير قيادة الحركة وأبنائها وإبعادهم إلي مرج الزهور، لكن هذا الإبعاد وعلى الرَّغم ممَّا مثله من ضرر على بنية الحركة التنظيمية إلاَّ أنَّه كان انتصاراً حقيقياً للقضية الفلسطينية، فقد أغلق باب الإبعاد وإلى الأبد بعد أن رفضت القيادة النزوح إلي لبنان وتمترست على الحدود مع فلسطين، كما كانت فرصة لتعريف العالم بأسره بالقضية الفلسطينية ورسالة الحركة وفرصةً لانتشار بعض قيادة الحركة في بعض الدول لتعريف بالحركة الإسلامية ورسالتها.
لقد مثل ( العام السَّابع ) لبعثة النّبي صلَّى الله عليه وسلّم مرحلة جديدة في العلاقات بين الكفار والمسلمين؛ حيث أعلنت قريش قطع العلاقات مع النَّبي وبني هاشم وحاصرته والصحابة في شعب أبي طالب حتَّى أكل صحابة النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم ورق الشجر، واشتد الظلم والقهر للمسلمين حتَّى بات صحابة النّبي يسألون عن النصر متى هو؟ والنّبي صلّى الله عليه وسلّم يطمئنهم ويهدّئ من روعهم، لما مثلته تلك المرحلة من مخاض عسير لدعوة النّبي صلى الله عليه وسلم، حيث كانت محاولات اجتثاث الإسلام في أعلى مستوياتها.
وهكذا كان الأمر في فلسطين، فلقد مثل ( العام السابع) من انطلاقة حماس مرحلة خطيرة في تاريخ الحركة، حيث كانت عودة السّلطة بمثابة بداية المواجهة الحقيقية بين فريقين يختلفان تماماً في البرامج، وقد كانت عودة السلطة بعد توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم قائمةً أصلاً على حصار الحركة الإسلامية وإنهاء وجودها في فلسطين، وقد مثلت تلك المرحلة اختباراً حقيقياً لأبناء الحركة ووضعت الكثير منهم أمام خيارات صعبة فثبت الكثيرون وسقط البعض من الضعفاء.
أمَّا ( العام التاسع) من دعوة النَّبي صلى الله عليه وسلَّم فقد مثل عام الحزن بعد وفاة زوجته وسنده الأول خديجة رضي الله عنها وكذلك عمّه أبي طالب، ومعها كان أذى المشركين في أعلى مراتبه.
ولم يكن ( العام التاسع) على حماس بأقل حزناً وألماً، فقد كانت السلطة تنكل في أبناء الحركة الإسلامية، وارتقى في ذلك العام واحدٌ من أسود الإسلام ( المهندس يحيى عياش)، ولحقه عدد من إخوانه المجاهدين، وامتلأت سجون أبناء جلدتنا بإخواننا المجاهدين .. فكان حقاً عام حزنٍ وألم.
لكن ( العام العاشر) من دعوة الرَّسول، وما مثلته من رحلة الإسراء والمعراج كانت بمثابة المحفز على الاستمرار وتجديداً لهمَّة النّبي صلَّى الله عليه وسلّم، وتأكيداً على صدق المنهج، لقد مثلت رحلة الإسراء والمعراج خارطة طريق واضحة للأجيال القادمة أنَّ الإسلام خرج من مكَّة، لكن أرض الإسلام ومحطته الرئيسة هي فلسطين، وكأنَّ النّبي صلَّى الله عليه وسلّم أراد أن يقول لمن بعده: إنَّ تحرير فلسطين هو بداية السيادة لهذا الدِّين ووصوله لكلِّ الدنيا، ومن تتبع سيرة الصَّحابة وزمن الخليفة عمر يدرك حقيقة هذا الأمر.
وهكذا كان ( العام العاشر) على انطلاقة حماس بمثابة بداية الفرج، ومعه كان الفرح حيث نجا رئيس المكتب السياسي خالد مشعل من محاولة اغتيال، كما تمَّ الإفراج عن شيخ المجاهدين أحمد ياسين، وفيه كانت رحلة النصرة والتمكين لهذه الحركة الرَّاشدة من خلال الرحلة التي قام بها الشيخ أحمد ياسين لعدَّة عواصم عربية، جدَّد معها دعوة الحركة وأثبت عمقها الحقيقي ووضح رسالتها، ووجَّه رسالة للأمَّة أنَّ انتصارها وعزّتها يبدأ من تحرير فلسطين وصولاً لسيادة الإسلام على الأمم جميعاً.
أمَّا العامان ( الثاني عشر والثالث عشر) فقد مثلت أعوام مهمَّة في تاريخ الإسلام؛ ففيها كانت بيعة العقبة الأولى والثانية، والتي مثلت تحوّلاً مهمّاً في دعوة الإسلام وخروجها من المحلية إلي الإقليمية والعالمية بفضل الله يوم جاء المسلمون إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم من المدينة المنوّرة معلنين إسلامهم، ومعهم كان أول سفير للإسلام خارج مكَّة، ومعهم كانت أولى البشريات أنَّ مشروع الانهزام والكفر بدأ في السقوط، وأنَّ المستقبل لهذا الدِّين، وأنَّ مرحلة الانتشار قد بدأت، ولن تتوقف بإذن الله، وأنَّ الإسلام على أبواب مرحلة تاريخية مهمَّة لا بد من استثمارها بشكل جيّد استعداداً لمرحلة علنية الإسلام وبناء الدولة المسلمة بإذن الله.
وفي المقابل مثلت الأعوام ( الثانية عشر والثالثة عشر) في تاريخ حماس محطات مهمَّة هي الأخرى، فمشروع التسوية بدأ يترنح والدَّولة الموعودة لم تقم، وحماس بدأت تنتشر بشكل أوسع في مناطق مختلفة من فلسطين، وأعداد الأنصار في ازدياد مستمر، وبدأ النَّاس يخرجون من حلم الدولة الموعودة، كما أن بدأت الحركة بإرسال سفرائها في الخارج من خلال فتح مكاتب لها في عدَّة دول عربية، وبدأ واضحاً أنَّ المنطقة بدأت تدخل مرحلة جديدة بعد تعثر مفاوضات السَّلام، وأنَّ على الحركة الإسلامية أن تستعد لاستثمار هذه المرحلة بشكل يمكنها من الصّعود نحو بناء المجتمع المسلم.
هكذا تبدو السنوات الأولى من دعوة النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا هي مع انطلاقة حماس، هذه الحركة الواعدة والتي تبشر خطواتها الواثقة والواضحة أنَّ عودة الإسلام إلى الصدارة أمر حتمي بإذن الله، وما هذه المحاولة من تقريب التاريخ إلاَّ ليطمئن الجميع على هذه الدعوة، وليعلم الإخوة أنَّ دعوتنا تمضي بإرادة الله واثقة مطمئنة، رغم كلِّ العثرات التي سنتطرق إليها في المرحلة الثانية من محطات .. بإذن الله..
محطات بين دعوة الإسلام وانطلاقة حماس
شاهد أيضاً
إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟
الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …