"أنا طبيبة و هو طبيب، و كانت شبكتي من الذهب الأبيض، و بدأنا حياتنا في شقة صغيرة مستأجرة بأحد الأحياء الشعبية، اشترينا معظم أثاث البيت بالدين، كان المطبخ عبارة عن نملية، و خطت مفارش لتغطية الخزانات، كانت القلاية التي اشترتها حماتي تتسع لقبيلة و كانت البيضتان،لي و لزوجي، تتوهان فيها! و لكن زوجي كان يستحق التضحية فقد وفر لي أفضل ما يستطيعه وقتها ضمن امكاناته، و كان المستقبل أمامه، و ابن الحلال إن ضاقت عليه الدنيا لا يظلمك، و ان اتسعت عليه لا يحرمك، و بنت الحلال تصبر على المرة حتى تسعد بالحلوة، و بالاتفاق و المودة تتغير الأحوال، و الآن أكرمنا الله و عوضنا كل ما افتقدناه في سني الزواج الأولى و زيادة"
لولا أن هذه قصة حقيقية لامرأة متعلمة تزوجت في السبعينات لقلت أنها تقترب لمثاليتها من الأساطير الرومانسية يوم كانت النساء يغنين أن عش العصفورة يكفينا و لقمة صغيورة تشبعنا، و يوم كن يطالبن بالبساطة و بغداء الجبنة و الزيتون و عشاء البطاطا، و يوم كان شعار العائلات خذوهم فقراء يغنهم الله
هذا التيسير و التسهيل و الأمل التي قامت عليه العائلات و تزوج عليه آباؤنا و أمهاتنا قارب على الاختفاء في حياتنا لتغير نفوسنا و قيمنا و سوء الأحوال الاقتصادية التي نعيشها، و أصبحت الفتيات و أهاليهن يطالبون بلبن العصفور بدل عش العصفور، و الفتاة من الجيل الجديد لم تشهد المعاناة التي عاناها والداها في بداية حياتهما، بل وُلدت مكرمة مدللة منعمة في بيت سياح يركض فيه الخيل، كل طلباتها مجابة، و تسمع فقط قصصا و نوادر أن أمها سكنت مع حماتها في بداية حياتها الى أن فتح الله على أبيها فانتقلوا الى منزل مستقل، و لكنها لم تجرب شيئا من هذا، و إذا لم يكن العريس القادم يشابه أهلها في أحوال الحياة ،فإن الرفض أسهل الطرق! و تمر الأيام و يقل طارقوا الباب و طالبوا القرب و سنة بعد سنة تتضاءل الفرص، و ما تحس الفتاة و أهلها الا و قد جاوزت السن المناسب و المطلوب للزواج، و ساعتها إما أن ترضى بالمطلق أو الأرمل أو المعدد، و إما أن تبقى حبيسة جدران البيت السياح تخاف من ظلم الأخوة و تجبر زوجاتهم بعد رحيل الأم و الأب
و أما الأحوال الاقتصادية فحدث و لا حرج فقد أصبح ثمن أقل شقة فوق قدرة أي موظف و شاب في مقتبل عمره، و إذا لم يساعد الأب أولاده ان استطاع، فسيضطرون الى القروض البنكية التي تستعبدهم سنوات طوال الى أن يسددوها و يتملكوا شقفة شقة لا تتسع لأكثر من ثلاثة أطفال بحساب حجم العائلة العربية!
و لكن هل من الواقعي أيضا أن نفكر بعودة الأنماط القديمة من السكن مع العائلة لتجاوز أزمة غلاء المساكن و ما ينتج عنها من احجام عن الزواج و ازدياد للعنوسة و انتشار للانحرافات الأخلاقية في المجتمع؟ كم امرأة تقبل أو تستطيع أن تعيش مع حماتها التي تناصبها العداء من أول يوم و تنظر الى حياة ابنها كمنطقة نزاع بينها و بين زوجته لاثبات من لها الكلمة الأولى و اليد الطولى؟ لماذا كانت أمهاتنا أصبر منا و أكثر مداراة و أكثر دبلوماسية في التعامل مع حمواتهن لأجل عيون الزوج و لكي يسير مركب الحياة، أم أن الحموات كن أطيب في تلك الأيام و كن ينظرن الى الكنة كابنة؟ و لماذا نتوقع الآن أن تكتمل لنا عناصر الحياة السعيدة الرغيدة جملة واحدة و من أول الطريق دون تعب و تنازل؟
لماذا لا نسعد بما في أيدينا و ما رزقنا الله إياه و نجعل المقارنات مع أمثالنا تنغص حياتنا؟ لقد أصبح مهر المثل و سكن المثل و حياة المثل قيدا و عائقا كبيرا أمام الزواج،فقد يكون الشاب مِثلا و مكافئا في الدين و الأخلاق و العقل و الفهم و الذوق و لكن يعوزه المال فيكون هذا سببا في رفضه و تظل الفتاة تنتظر المثيل الذي قد لا يأتي!
و قد صور الشاعر هذه المعوقات بقالب فكاهي على لسان شاب تقدم للزواج فقال له الأب:
أيا ولدي
لنا الشرف
فنعم الأهل من رباك
ونعم العلم في يمناك
وإن العلم يغنينا
وأما المهر ياولدي
فلاتسأل
لأنا نشتري رجلاً
وليس المال يعنينا
ولكن هكذا العرف
وإن العرف يا ولداه
يحميكم ويحمينا
فمليون مقدمها
وأربعة مؤخرها
وضع في البنك
للتأمين عشرينا
وبيت باسم ابنتنا
وملبوس على البدن
من الفستان للكفن
و"لامبورجيني"
وان صَعُبَت
فإن "البيجو " تكفينا
وأما العُرس يا ولدي
ففي "الشيراتون"
فشأنُ صغيرتي شأنٌ
سعادٍ بنت خالتها
وهندٍ بنت عمتها
فقلت له
أيا عماه
فلو بيديّ ربع المهر
كنت اليوم قارونا
أيا عماه
أنا رجل بسيط في موارده
ودخلي بضع ألاف
أيا عماه
أنا رجل أحب بكل إحساسي
وقلبي ليس من ذهب
ترى ان كان من ذهب
أكان الحب يأتينا
ترى هل يشعر الأنسان
حين يكون خافقه
من الألماس معجونا
أيا عماه
تطورنا
وعدنا في تخلفنا
لوقت كانت الأنثى
تباع كأنها عقد
فنخاس ينادي هذه بكر
وآخر هذه أحلى
وثالث هذه أطول
لماذا صارت الأنثى
تساوم في أنونثتها
فتعطوها
لمن ترضونه مالاً
وقال الله من ترضونه دينا
و لماذا نُعلي و نكبّر بيوتنا و نشقى في أثمانها و عائلاتنا صغيرة لا تحتاج أكثر من غرفتين بمنافعهما فقط لأجل المفاخرة و المقارنة و العرف السائد؟
في بريطانيا لا تزيد سعة البيت في معظم الأحوال عن 80-90 م ،و لا يزيد ارتفاع السقف عن 290 لحفظ الدفء شتاء و التبريد صيفا، و فيه تعيش عائلات مكونة من خمسة أفراد،فهل هم أفقر منا أم أسوأ حالا،أم أنه الذكاء في توفير العديد من المساكن بشروط ميسرة للعائلات؟!
أما في غزة فتزوجوا بعد هدم بيوتهم في الخيام لكي تستمر الحياة و عمارة الأرض و يتجدد الأمل و يُقهر العدو و يخيب فأله
إن الزواج و تكوين عائلة حق للمرأة لا يجب أن يقف في وجهه أعراف اجتماعية ظالمة، و لكن تغيير الحال يحتاج الى وقفة جادة من النساء و الى إيقاف الممارسات النمطية في المغالاة، فخير النساء، كما يقول الرافعي، "من كانت على جمال وجهها في أخلاق كجمال وجهها، و كان عقلها جمالا ثالثا، فهذه إن أصابت الرجل الكفء يسّرت عليه، ثم يسّرت، ثم يسّرت"
ثم إن المجتمع و أعرافه لن ينفع المرأة و لن يؤنس وحدتها و يملأ عليها حياتها إذا فاتها القطار، و البيت الواسع ستضيق جدرانه بالوحدة بينما يتسع الضيق برفقة زوج ودود و أطفال هم ثمرة الفؤاد
إن الحياة الأسرية و السكن عبادة بقدر ما هي سعادة و صدق عبد الله بن المبارك إذ قال لاخوانه في الغزو" أتعلمون عملا أفضل مما نحن فيه؟ قالوا: ما نعلم ذلك، فقال: أنا أعلم، فقالوا: ما هو يا إمام؟ قال: رجل متعفف ذو عائلة قام من الليل فنظر الى صبيانه نياما قد تكشفوا فغطاهم بثوبه فعمله ذلك أفضل مما نحن فيه"