أكثر من أربعة أخماس سُكَّان الأرض يعتقدون أنَّ الوصول إلى الإنترنت هو حقٌّ أساسيٌّ من حقوق الإنسان.. كانت هذه هي خلاصة نتائج استطلاع للرَّأي أجرته هيئة الإذاعة البريطانيَّة "بي. بي. سي" قبل مدَّة، وشَمِلَ 27 ألف شخصٍ في 26 دولة في أنحاء العالم.
هذا الاستطلاع الذي أيدته إجراءات تبنتها بعض الدول، مثل فنلندا وأستونيا التي قرَّرت بالفعل أنَّ الوصول إلى شبكة الإنترنت هو أحد حقوق مواطنيها، يثبت بالدَّليل القاطع بالفعل، أنَّ الإنترنت، بعد 40 عامًا على إرسال أوَّل رسالةٍ إلكترونيَّةٍ، وميلاد الشَّبكة العنكبوتيَّة، قد صارت أحد أهم وسائط الاتِّصال والمعرفة وصناعة الوعي، في عالمنا المُعاصر.
وتنتمي الإنترنت إلى ما يُعْرَفُ بوسائط الإنفوميديا "Info Media" أو النُّيوميديا "New Media"، والتي تنتمي بدورها حزمة تُعْرَفُ بوسائل القوَّة النَّاعمة أو الـ"Soft Power" التي كانت مُفتاح انتصار الولايات المتحدة والغرب على الاتِّحاد السُّوفيتيِّ السَّابق والكتلة الشَّرقيَّة خلال الحرب الباردة؛ حيث كانت الوسيلة الأساسيَّة للقفز على "السِّتار الحديديِّ" الذي أقامه ستالين حول الاتِّحاد السُّوفيتي والدِّول الشُّيوعيَّة، ونقل قِيَم الحياة الغربيَّة إلى شعوب هذه البلدان، حتى جاء التَّصدُّع من داخل هذه الدِّول، وليس من خارجها.
فلقد تحوَّلت هذه الوسائل من مجرَّد وسائل إعلام، إلى وسائطٍ لنقل المعرفة، ثُمَّ لم تلبث أنْ تحوَّلتْ إلى وسيلةٍ من وسائل التَّعارف الاجتماعيِّ، وتبادُل الآراء والأفكار، التي تجاوزت بدورها الحاجز الاجتماعيِّ وحواجز الُّلغة إلى ما مناقشة كلِّ ما هو سِّياسيٌّ، مع كسرِ كلِّ المحظورات، في ظلِّ الطَّبيعة الخاصَّة التي تتميَّز بها وسائل الإعلام والمعرفة الجديدة، من قدرةٍ عاليةٍ على الإفلات من قًيود الرَّقابة وحواجز السَّيطرة الرَّسميَّة.
وصار الإعلام الجديد، وخصوصًا شبكات التَّفاعُل الاجتماعيِّ، مثل "فيس بوك" و"تويتر"، ومُواقع التَّحميل المجانيِّ للأفلام والمقاطع المرئيَّة، وعلى رأسها الـ"يو. تيوب"، أحد أهم وسائل صناعة الوعي، بمعناه الإيجابيِّ أو السَّلبيِّ، في زمننا المعاصر، وخصوصًا لدى الشَّباب الذي يُشكِّل النِّسبة الأكبر من جمهور مستخدمي الإنترنت ووسائل الإعلام الجديد.
ولكي يُمكن تصوُّر حجم تأثير هذه الوسائط في حياة الإنسان المُعاصر، يكفي مُطالعة بعض الإحصائيَّات الحديثة عنها، ففي نهاية العام 2009م، وصل عدد مستخدمي الإنترنت في العالم حوالي مليار و734 مليون نسمة، من بين سبعة مليارات نسمة، أي بنسبة 25% من تعداد سُكَّان العالم، ارتفاعًا من 361 مليون شخص فقط في العام 2000م، بنسبة زيادةٍ قدرها 380%.
ومن بين المليارَيْن إلاَّ ربع المليار الذين يستخدمون الإنترنت في العالم، هناك حوالي 940 مليون شخصٍ يستخدمون المواقع الاجتماعيَّة، 72% منهم يتواجدون في أكثر من موقعٍ اجتماعيٍّ، بحسب إحصائيَّات شركة "إنسايت كونسالتينج "InSites " "Consulting للأبحاث الأمريكيَّة المُتخصِّصة، ويحتل "فيس بوك" المركز الأول بنسبة 51%، ثُمَّ شبكة "ماي سبيس" بنسبة 20%، ثُمَّ "تويتر" بنسبة 17%، والباقي لمواقع مثل "فليكر".
على مستوى العالم العربيِّ، وبحسب إحصائيَّاتٍ لائتلاف الأمم المتحدة العالميِّ لتقنية المعلومات والاتِّصالات والتَّنمية، فإنَّ عدد مستخدمي الإنترنت في العالم العربيِّ وصل إلى 38 مليون نسمةٍ، من إجمالي 335 مليون نسمة، أي أكثر قليلاً من نسبة 10%، وارتفع عدد مستخدمي الإنترنت في العالم العربيِّ من العام 2000م وحتى العام 2009م، بنسبة 1200%، مقارنةً مع معدَّل الزيادة العالميِّ السَّالف 380%.
هذا عن حجم الانتشار، وهو وحده كافٍ للحكم على مدى تأثير الإعلام الجديد على المجتمعات الإنسانيَّة في عصرنا الحالي، إلا أنَّ هناك العديد من المُؤشِّرات الأخرى التي توضِّح عُمق تأثير وسائط الإعلام الجديد على الحياة في العالم العربيِّ والإسلاميِّ وفي عموم المُجتمعات الإنسانيَّة.
ولننظر إلى العالم العربيَّ والإسلاميِّ أولاً؛ فمن بين "أقدس مُقدَّسات" التَّابوهات التي لا يجوز الحديث فيها في العديد من البلدان، هي شؤون الحكم والسِّياسة، وفي هذه وحدها يكفي الإشارة إلى أنَّ واحدةً من أنجح تجارب الشَّباب في الاحتجاج الاجتماعيِّ في مصر في العقود الأخيرة، انطلقَتْ من موقع "فيس بوك"، وهي ثورة الخامس والعشرين من يناير، و"فيس بوك" أو "كتاب الوجوه" الآن هو السَّاحة الأكثر فاعليَّةٍ لدعم حملات الإصلاح والتَّغيير السِّياسيِّ والاجتماعيِّ في مصر وتونس والعالم العربيِّ، خصوصًا البلدان التي تشهد ثوراتٍ اجتماعيَّةً شاملةً.
أمَّا في إيران، فإنَّ "فيس بوك" و"يو. تيوب" و"تويتر" استطاعت كسر حاجز سيطرة الدَّولة على وسائل الإعلام خلال أزمة الانتخابات الرَّئاسيَّة في العام 2009م، ونقل صورة ما يجري على أرض الواقع إلى الرَّأي العام العالميِّ، بما كان له أبلغ الأثر على سياسة الحكومة هناك في إدارة الأزمة مع تيَّار ما يُعْرَفُ بالإصلاحيِّين في إيران.
كما كان الـ"يو. تيوب" و"فيس بوك" و"تويتر" وغيرها ساحةٌ شديدة الأهمِّيَّة والفاعليَّة لإدارة حملات المقاطعة ضد الكيان الصهيوني، وخصوصًا خلال أيام العدوان على قطاع غزَّة في ديسمبر 2008م ويناير 2009م، والآن تتفاعل الحملات الخاصَّة بالانتفاضة الثَّالثة، والتي أثارت الرُّعب لدى اليهود.
كذلك كانت هذه الوسائط من أنجح الوسائل خلال الحملة ضد الدَّانمارك خلال أزمة الرُّسوم المُسيئة للرسول الكريم مُحمَّدٍ "صلَّى الله عليه وسلَّم"، وقد وصلت درجة فاعليَّة هذه الحملات أنْ تجاوبت معها دوائر في أوروبا والولايات المتحدة، بينما بلغت خسائر الدَّانمارك من جراء حملات المقاطعة التي شاركت فيها وسائل الإعلام الجديد؛ حوالي مليارَيْ دولار، وأجبرت حكومات بلدانٍ أخرى غربيَّةٍ على إلزام صحفها بعدم نشر هذه الرُّسوم.
ويقول الدُّكتور محمود خليل، أستاذ الإعلام في جامعة القاهرة، شارحًا هذه الحالة: إنَّ مواقع وشبكات التَّعارُف الاجتماعيَّة، وعلى رأسها "فيس بوك"، تجاوزت الإطار الاجتماعي التي أُسِّسَت عليها، لتكون ذات دورٍ إعلاميٍّ وسياسيٍّ فاعلٍ في العالم العربيِّ، ويقول أيضًا في تفسيره لهذه الظَّاهرة إنَّ "فيس بوك" بدأ بدايةً اجتماعيَّةً كموقعٍ للتَّواصُل بين مجموعةٍ من الأفراد الذين تجمعهم اهتماماتٌ وميولٌ مشتركةٌ، ولكنَّه كان من الطَّبيعيِّ أنْ يتطوَّر إلى الاتِّجاه السِّياسيِّ مع ما شهدته السَّنوات الأخيرة من حراكٍ سياسيٍّ في العالم العربيِّ والإسلاميِّ.
وبعيدًا عن السِّياسة؛ فإنَّ الكثير من الحملات الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة والدِّينيَّة النَّاجحة في العالم العربيِّ والإسلاميِّ انطلقت من "فيس بوك" ويتم التَّرويج لها من خلال وسائط الإعلام الجديد، مثل حملة "بالأخلاق نرتقي"، و"استرجل وقوم صلِّي الفجر"، كما تشكَّلتْ حملات أخرى على "يو. تيوب" و"فيس بوك" تدعو إلى قِيَمِ الإسلام الحقيقيَّة، مثل التَّسامح والإيجابيَّة والحوار ونبذ العنف واحترام الآخر.
بل إنَّ بعض الحملات الطَّريفة التي ظَهَرْتْ في السَّنوات الأخيرة كان لها مردودٌ جيِّدٌ في بعض المجالات الشَّديدة الخصوصيَّة في المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة، مثل حملة مقاطعة الُّلحوم في مصر والتي أجبرت تُجَّار الجُملة والتَّجزئة على تخفيض الأسعار، بما يُوضِّح عمق تأثير هذه الوسائط على الحياة العامَّة والخاصَّة للمواطن في بلدان عالمنا العربيِّ والإسلاميِّ.
وفي حقيقة الأمر، وأيًّا ما كان الموقف من بعض التَّفاعُلات السِّياسيَّة والأفكار المعروضة حاليًا على شبكات ووسائط الإعلام الجديد؛ فإنَّ "فيس بوك" وإخوانه من المواقع والشبكات الاجتماعيَّة ووسائط الفضاء السَّيبريِّ، باتت جزءًا شديد الأهمِّيَّة من مجموعة أدوات ساهمت في تنمية وعي الشَّباب العربيِّ والمسلم، بجانب الفضائيَّات وأدواتها الأهم، وخصوصًا البرامج الحواريَّة والتَّفاعُليَّة أو الـ"توك شو" "Talk Show".
وهو ما يفرض على ذوي الشَّأن من الإعلاميِّين وعلماء النَّفس والاجتماع وكذلك المُثقَّفين والإعلاميِّين في العالم العربيِّ والإسلاميِّ، البحث في سُبُلِ تعظيم إيجابيَّات هذه الوسائط، والتَّقليل من تأثيراتها السَّلبيَّة على شبابنا العربيِّ والإسلاميِّ، والتي من بينها الغزو الفكريِّ والتَّرويج للإباحيَّة.