كانت الثورات الشعبيَّة الأخيرة التي قادها الشباب في الكثير من بلدان العالم العربي باعثة للكثير من المشاعر الوطنيَّة التي غيبتها عقود القهر والفساد والاستبداد؛ بحيث استلبَتْ الكثير من الانتماءات والقيم لدى الجيل الجديد.
ولقد أثارت هذه المشاعر الوطنيَّة الجياشة الكثير من النقاشات ذات الطابع الفقهي والشرعي حول مسألة حب الأوطان، ومدى مشروعيَّة تضحية الإنسان بحياته في سبيل وطنه، وموقف الإسلام في هذا الإطار.
وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ هناك الكثير من الإيضاحات الواجبة في هذا المقام؛ حتَّى لا يتراجع الكثير من الشباب عن مواقفهم الثوريَّة تحت وطأة مواقف ومفاهيم غير واضحة إزاء توصيف الشريعة الإسلاميَّة لهذه المسألة.
وفي البداية نقول قول اللهُ عزَّ وجلَّ في كتابه العزيز: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ [سُورة "التَّوْبة"- من الآية 24].. هكذا يؤكد ربُّ العزة سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات على أن الإنسان قد جُبِلَ على حب الوطن.. الوطن بمعناه الشامل، الذي يتضمن الأرض والمكان والإنسان.
ويقول فضيلة الشيخ عادل الكلباني في تعليق له على هذه المسألة: إنَّ هذه الآية لا تنهى عن حبّ تأصل في القلوب، وقدرت عليه النفوس؛ حيث لم يأت الإسلام بما يتعارض مع حب الأوطان، وإنَّما فيه ما يقوّمه، ويسلك به مسلك الوسطيَّة، ويشير إلى أنَّ الآية تنهى فقط على أن يكون هذا الحب لهذه الأشياء المذكورة في الآية أعظم من حبّ الله عزّ وجل ورسوله "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم".
فالله تعالى ورسوله "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" لابدَّ أنْ يكونا أحبَّ للمرء من كلّ شيء؛ من أهله وماله وولده ومسكنه، فالآية تثبت ذلك الحب، ولكنَّها تنهى أن يطغى هذا الحب على حب الله ورسوله.
وتنطلق التربيَّة الإسلاميَّة في تعاملها مع النَّفس البشريَّة من منطلق الحب الإيماني السَّامي؛ الذي يملأ جوانب النفس البشريَّة بكل معاني الانتماء الصَّادق، والولاء الخالص.
ولاشكَّ أنَّ حبَّ الوطن من الأمور الفطريَّة التي جُبل الإنسان عليها، فليس غريبًا أبدًا أن يُحب الإنسان وطنه الذي نشأ على أرضه، وشبَّ على ثراه، وترعرع بين جنباته، كما أنَّه ليس غريبًا أن يشعر الإنسان بالحنين الصَّادق لوطنه عندما يُغادره إلى مكانٍ آخر ، فما ذلك إلاَّ دليلٌ على قوة الارتباط وصدق الانتماء.
وحبُّ الوطن ليس من أجل الدِّين فقط؛ بل هو شعور يختلج في قلب كلّ إنسان، حب لبلاده ومكان مولده والطرق والأماكن التي ترعرع فيها ونشأ بين ربوعها، ولهذا طمأن الله تعالى نبيه "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، وأنزل عليه قوله: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ [سورة القَصَص- من الآية 85]، وفي تفسير القرآن العظيم للإمام الحافظ إسماعيل ابن كثير، وفي صحيح البخاري؛ يقول عبد الله بن عباس "رَضِيَ اللهُ عنهما" إنَّ المقصود بهذه الآية مكة المكرمة.
وفي آية أخرى يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ﴾ [سُورة "المُمْتَحَنة"- من الآية 9]، وفي هذه الآية قرن الحكيم الخبير بين الدين والوطن، وفي هذا دليل أن كما للدين مكانته في النفس؛ فإن للوطن أيضًا مكانته.
وفي السُّنَّة النبويَّة الكثير من الإشارات حول هذه القضيَّة، ومن سلوك ومواقف الرَّسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" ما يوضح أنَّ حب الأوطان من أشرف وأرقى مشاعر الإنسان، وأنه مجبول عليها.
ففي بداية أيام البعثة النبويَّة، عندما قال ورقة بن نوفل للنَّبيِّ "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم": "ياليتني فيها جذعًا ليتني أكون حيًّا إذ يخرجونك قومك"، فقال رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم": "أَوَ مُخرجيَّ هُم؟". قال: "نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلاَّ عودي" [أخرجه البخاري ومسلم وآخرون]، وهنا؛ فإنَّه من الملاحظ في كلام الحبيب المصطفى صلوات ربِّي وسلامه عليه، أنَّ فكرة الإخراج من الدّيار كانت عسيرة على نفسه الشريفة.
ولا يجهل أحد من المسلمين كيف ناجى الرَّسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" مكة المكرمة وهو خارج منها، فقال "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" في حديث صحيح أخرجه الإمام الترمذي: "والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله وإنك لأحب البلاد إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت"، وفي رواية عن عبد الله بن عباس "رَضِيَ اللهُ عنهما"، قال "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم": "ما أطيبكِ من بلد وأحبَّكِ إليَّ ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ".
ويشير الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد، أستاذ التربية الإسلاميَّة بكلية المعلمين في أبها، ومدير مركز البحوث التربوية بالكليَّة، في مقال له بعنوان "التربية الإسلاميَّة وحب الوطن" إنَّه حتى يتحقّق حبّ الوطن عند الإنسان؛ فإنه لابدَّ من تحقُّق صدق الانتماء إلى الدين أولاً، ثمَّ الوطن ثانيًا.
ويؤكّد بدوره على أنَّ تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تحُث الإنسان على حب الوطن، ولعلَّ خير دليل على ذلك ما صح عن النبي "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" كما تقدم، عندما وقف يُخاطب مكَّة المكرمة مودعًا لها، وهي وطنه الذي أُخرج منه، ولولا أنَّ رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، وهو مُعلم البشريَّة، يُحب وطنه، ويعلم تمامًا أن ذلك ما يخالف صحيح الدين أبدًا، وهو الذي لا ينطق عن الهوى؛ لما قال هذا القول الذي لو أدرك كل إنسان مسلم معناه؛ لرأينا حب الوطن يتجلَّى في أجمل صوره وأصدق معانيه، ولأصبح الوطن لفظًا تحبّه القلوب، وتتحرَّك لذكره المشاعر.
وإذا كان الإنسان يتأثر بالبيئة التي ولد فيها ونشأ على ترابها وعاش من خيراتها؛ فإنَّ لهذه البيئة، بما فيها من الكائنات وما فيها من المكونات، عليه حقوقًا وواجبات كثيرة تتمثل في حقوق الأُخوَّة وحسن الجوار وحقوق القرابة، وغيرها من الحقوق الأخرى التي على الإنسان في أي زمانٍ ومكان أن يراعيها وأن يؤدّيها على الوجه المطلوب وفاءً وحبًّا منه لوطنه.
وإذا كانت حكمة الله تعالى قد قضت أن يُستخلف الإنسان في هذه الأرض ليعمرها على هدى وبصيرة، وأن يستمتع بما فيها من الطيبات والزينة، لاسيّما أنّها مُسخَّرَة له بكل ما فيها من خيرات ومعطيات؛ فإنَّ حبَّ الإنسان لوطنه، وحرصه على المحافظة عليه واغتنام خيراته؛ إنَّما هو تحقيقٌ لمعنى الاستخلاف الذي قال فيه سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [سُورة "هُود- من الآية 61].
ويمكن القول: إنَّ دور التربيَّة الإسلاميَّة يتمثلُ في تنميَّة الشعور بحب الوطن عند الإنسان من خلال العديد من الأمور؛ من بينها تربية الإنسان على استشعار ما للوطن من أفضالٍ سابقةٍ ولاحقة عليه، بعد الله سبحانه وتعالى وفضله، منذ نعومة أظافره، ومن ثمَّ تربيته على رد الجميل، ومجازاة الإحسان بالإحسان، لاسيّما وأنَّ تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تحثّ على ذلك وترشد إليه كما في قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ﴾ [سُورة "الرَّحمن"- الآية 60].
أيضًا الحرص على مدّ جسور المحبَّة والمودة مع أبناء الوطن في أيّ مكان منه؛ لإيجاد جوٍّ من التآلف والتآخي والتآزر بين أعضائه الذين يمثلون في مجموعهم جسدًا واحدًا مُتماسكاً في مواجهة الظروف المختلفة، مع غرس حبّ الانتماء الإيجابي للوطن، وتوضيح معنى ذلك الحب، وبيان كيفيته المُثلى من خلال مختلف المؤسسات التربويَّة في المجتمع كالبيت والمدرسة والمسجد والنادي ومكان العمل، وكذلك عبر وسائل الإعلام المختلفة مقروءة أو مسموعة أو مرئيَّة.
ومن ذلك تربية الأبناء على تقدير الوطن ومكوّناته، والمحافظة على مرافقه ومُكتسباته التي من حقّ الجميع أن ينعم بها وأن يتمتع بحظه منها كاملاً غير منقوص، والإسهام الفاعل والإيجابي في كلّ ما من شأنه خدمة الوطن ورفعته سواءٌ كان ذلك الإسهام بالقول أو بالفكرة البناءة أو من خلال العمل، وفي أي مجالٍ أو ميدان؛ لأن ذلك واجب الجميع؛ وهو أمر يعود على الجميع بالنفع والفائدة، على المستويَيْن الفردي والاجتماعي.
كما يجب التصدي لكلّ أمر يترتب عليه الإخلال بأمن وسلامة الوطن، والعمل على رد ذلك بمختلف الوسائل والإمكانات الممكنة والمُتاحة، والدفاع عن الوطن عند الحاجة إلى ذلك بالقول أو العمل.
يضاف إلى ذلك؛ فإنَّه من بين هدي الإسلام فيما يتعلق بحب الأوطان، ضرورة العمل على أن تكون حياة الإنسان والمجتمع بشكل عام، كريمةً على أرض الوطن، ولا يمكن تحقيق ذلك إلاَّ عندما يدرك كلّ فرد فيه ما عليه من الواجبات فيقوم بها خير قيام.
ولأنَّ حبَّ الإنسان وطنه فطرة مزروعة فيه؛ فإنَّه ليس من الضروري أن يكون هذا الوطن جنَّة مفعمة بالجمال الطبيعي، تتشابك فيها الأشجار، وتمتد على أرضها المساحات الخضراء، وتتفجر في جنباتها ينابيع الماء، كي يحبّه أبناؤه ويتشبثوا به.
فقد يكون الوطن جافًّا، جرداء أرضه، قاسيًا مناخه، تلهب أديمه آشعة الشمس الحارقة، وتُزكم الأنوف هبَّات غباره المتصاعدة، وتحرق الوجوه لفحات هجيره المتقدة، وقد تكون أرضه عرضة للزلازل وتفجر البراكين، أو تكون ميدانًا للأعاصير والفيضانات، أو غير ذلك من السمات الطبوغرافيَّة والمناخيَّة التي ينفر منها الناس عادة؛ لكن الوطن، رغم كلّ هذا، يظل في عيون أبنائه حبيبًا وعزيزًا وغاليًا، مهما قسا ومهما ساء.
المُرْتَكَز الإسلاميُّ والعقائديُّ لحبِّ الوطن
شاهد أيضاً
إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟
الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …