من النظريات التي تُعرض في مفهوم الحب أنَّ الحبَّ الصَّادق يكون مرَّة واحدة في العمر، و أنَّ التجارب الأخرى تكون استنساخاً ضعيفاً في المشاعر و السّلوك، و قد ورثنا كعرب مبدأ أبي تمام في أنَّ الحب الأصدق و الأبقى هو الحب الأول، إذ قال:
نقل فؤادك ما استطعت من الهوى
ما الحبُّ إلاَّ للحبيبِ الأوَّلِ
كم منزل في الكون يألفه الفتى
و حنينه أبداً لأوّل منزلِ
و بقدر ما يثبت هذا البيت منزلة الحب الأوَّل إلاَّ أنَّه يفتح إمكانية تعدّد تجارب الحب و تكرارها ممَّا يفتح مجالاً للتساؤل حول الوفاء، و إذا كان الحب صادقاً ألا يستلزم ذلك أن يكون المحب وفيّاً فيقصر قلبه و جوارحه و عمره كلّه على محبوبه؟
وإذا كانت الدّراسات و الكتب تقول: إنَّ المرأة من كوكب الزّهرة و الرّجل من المريخ، أي إنَّ لكلِّ منهما طريقته في الحب و الوفاء، الرَّجل قلبه حديقة قد يزرع فيها أكثر من زهرة، و المرأة قلبها سجن انفرادي إذا دخله رجل لم يخرج منه إلاَّ بموت أو كراهية، فهل المرأة بناء على هذا التشبيه أكثر حبّاً و وفاءً من الرجل؟؟؟
لقد اجتمع الحب و الوفاء في سيرة المصطفى صلَّى الله عليه و سلّم ليعلّمنا كيف يحب الرِّجال و كيف تقرّ أعينُ النساء و يرضين بحب الرّجال، فالشَّائعُ أن أحب زوجاته إلى قلبه كانت السيّدة عائشة رضي الله عنها، و لكن من يقرأ بين السطور يدرك أنَّ السيدة خديجة كانت حبَّه الأول، دافع عن ذكراها وهي ميتة في وجه أعزّ النساء على قلبه، عائشة، عندما غارت من كثرة ذكر النبي عليه الصَّلاة و السَّلام لخديجة و ثنائه عليها، فقالت : (وهل كانت إلاَّ عجوزاً في غابر الأزمان أبدلك الله خيراً منها).
فكان الوفاء النبوي الذي يعزّ نظيره و تدفقت الذكريات المحفورة في القلب و الوجدان، فأجابها صلَّى الله عليه و سلّم :(( والله ما أبدلني الله خيراً منها، لقد آمنت بي إذ كفر بي النَّاس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، وكان لي منها الولد)، ثمَّ قال:(ورُزقت حبّها).لقد اجتمع الحب و الوفاء في سيرة المصطفى صلَّى الله عليه و سلّم ليعلّمنا كيف يحب الرِّجال و كيف تقرّ أعينُ النساء و يرضين بحب الرّجال..
كانت نسمات الحب الأوَّل إذا هبَّت في صوت أختها هالة بنت خويلد زائرة في بيته هيجت عليه الأشواق و الأحزان، فيقول مسترجعاً الأصل في الصورة : ((اللهم خديجة))، و يبقى يبرّ ودّها في صديقاتها، و يهدي لهنَّ ممَّا رزقه الله إكراماً لذكراها.
محمَّدٌ صلَّى الله عليه و سلّم...مثال الحب الأصدق و الأوفى و الأعدل بين صور الحبّ كلّها، و لكن هل يستطيع أحدٌ أن يكون مثله؟؟؟
أشكال من الحب الأكبر و الأبقى
قيل من تجارب السَّابقين: إنَّ الحبَّ إذا كان صادقاً ظهر أثره الخيّر على كلّ ما يحيط به من أناس و أشياء، فيخرج من إطار اثنين من البشر من دم و لحم و أجل محدود ليبقى فكرة سامية، و عملاً متقبلاً، و ذكرى لا تُنسى
هكذا كان حب قطز لزوجته حب الرّمان؛ إذ تروي كتب التاريخ أنَّه كان لا يصبر على فراقها، ممَّا جعله يصطحبها حتى في الحروب، و شاع أمر حبّه لها حتَّى وصل أعداءه من المغول، فعزموا على إيذائه بها، فلَّما كانت عين جالوت وصلوا خيمتها و ضربوها حتَّى خلصها الجنود من بين أيديهم، فلما سمع قطز بالخبر طار إليها، فوصلها و الدماء تنضح منها فصرخ معتنقاً إيَّاها: واحبيبتاه، فردت عليه: لا تقل واحبيبتاه، بل قل وإسلاماه
هذه المرأة العاطفية و الزَّوجة المحبَّة أدركت أنَّ المشاعر في تلك اللحظة كانت يجب أن تتوجه في اتجاه واحد، و تلتحم بالغاية الكبرى، و إنها و قطز لم يكونا زوجين في تلك اللحظة، بل جنديين يسعيان لنصر المسلمين، و لكن تلك اللحظة التاريخية و الوقفة الخالدة لم تكن وليدة الموقف، بل حصيلة محبَّة طويلة و تفاهم زوجي عميق، ربّت فيه حبّ الرمان قطز على المحبّة، و ربَّاها على التفاني، فلَّما جاء الامتحان بذل كلاهما جهده، فكان النصر بجدارة.
و من المعاصر ما رواه الدكتور فايز أبو شماله في قصته الواقعية بعنوان: (حبيبي و سجني) عن الشابة عطاف المقدسية التي بقيت صامدة اثني و عشرين عاماً تثبّت بحبها خطيبها الأسير محمود الصفدي في غياهب السجن، و تزرع الأمل في نفسه أنَّ النَّصر قادم و الفرح قادم، و أنَّ ظلام السِّجن لن يخيّم، و أنَّ فجر الحرية سيتسامى، كان حبُّها اتصال محمود بالحياة، و بقايا الإنسانية في قلبه، كان سلاحه لمواجهة السجان، كتبت له في رسالة: "حبيبي، و عمري و حياتي و عيوني و أملي و قلبي، إذا ضاقت عليك المعمورة، و صانعتك الأشواك و الصّعاب و الأحزان، خذ قلبي إليك أنيساً، خذ فكري إليك صديقاً، و خذ يدي أقلع بهما الأشواك، أمَّا إذا شعرت بالوحدة و الفراق، فاعلم أنَّ وجودي المرهف، و قلبي الحائر يجتاح الجو ليعيش ساعات حنان في خيالي، يتمنى أن تتحقّق و لو بعد حين، أمَّا المعنويات ففولاذ"
بقيت عطاف مخطوبة و بقي محمود مسجوناً، فهل مات الحب المستحيل بعد اثني و عشرين سنة؟ و هل كان السجن أقوى من الحب؟ و الواقع أقوى من المثال؟؟
الحب..إكسير الحياة بين الزوجين
شاهد أيضاً
إقرار أول قانون للحماية من العنف المنزلي في السعودية
قال مسؤول في مجال حقوق الإنسان إن السعودية أقرت قانونا مهماً يهدف إلى حماية النساء …