نجحت الحركات الإسلاميَّة خلال العقود الماضية في اجتياز الكثير من الاختبارات الصَّعبة والمصاعب التي تعرَّضت لها طيلة العقود الماضية؛ حيث نجحت في قيادة حملة ناجحةٍ لنشر الصَّحوة الإسلامية فكرًا وحركةً في مجتمعاتنا العربيَّة والإسلاميَّة.. واجهت الاحتلال في فلسطين وأفغانستان.. قادت ثورات هي من أنجح وأنزه الثَّورات الشَّعبيَّة في تاريخ الإنسانيَّة.. حققت الكثير من التطوير في مفاهيم العمل الاجتماعيِّ والحركي..
وبرغم أنَّ هذه الحركات والجماعات قد تباينت في أدواتها وأساليبها، ما بين ما هو ثوريٌّ راديكاليٌّ قد يتبنَّى العنف لتحقيق أهدافه، وبين ما تبنَّى منها أساليب التغيير الاجتماعي والبنيوي التَّدريجيِّ؛ إلا أنها اشتركت جميعها في مرجعيتها وفي غاياتها؛ حيث كانت المرجعيَّة كتاب اللهِ تعالى وسُنَّة نبيِّه "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وكان الهدف هو رفعة هذا الدين ومحاولة استعادة أمجاد الأُمَّة وتحقيق حلم الوحدة مرَّة أخرى..
ولذلك، وخصوصًا بعد النَّجاح في إزالة الاستعمار في العراق، وتكسير أسنانه في أفغانستان وفي فلسطين، وفي إزالة الطغيان في مصر وتونس وبلدان عربيَّة أخرى؛ ازدادت الحملة ضد الحركات الإسلاميَّة وضد التَّيَّار والمشروع الَّلذين تُعبر عنهما ضراوةً، مع وضوح قرب انتصار المشروع الحضاريِّ الإسلاميِّ في أهمِّ بلدٍ في العالم، وهو مصر..
وتكمن خطورة الحرب الحالية ضد المشروع الإسلاميِّ ليس في أنَّه بالصاروخ والمدفع؛ وإنَّما هو من خلال الفكر والإعلام؛ حيث الحرب على قلوب وعقول الجماهير..
ولذلك كان مِن الأهمِّيَّة بمكانٍ العمل على التصدِّي لهذه الأراجيف التي يردِّدها دعاة العلمانيَّة والِّليبراليَّة الزائفة، من خلال الدِّراسة الرَّصينة والكلمة الطَّيِّبة، التي تكشف وتوضح من دون انحيازٍ، وبموضوعيَّةٍ كاملةٍ، من خلال قراءة في بعض أدبيَّات الحركة الإسلاميَّة واستعراض معالم من المسيرة.
ويهدف هذا إلى إعادة إنتاج الخطاب الإسلاميِّ الحركيِّ في ذهنيَّة المجتمع، والرَّد على بعض الشُّبهات والالتباسات المُثارَة في الآونة الأخيرة بشأن صيرورة المشروع الإسلاميِّ.
ومن بين أبرز الأفكار التي تحضرنا في هذا الجانب:
1. لا تتحرَّك الحركة الإسلاميَّة في فراغٍ؛ بل في بيئةٍ مُعاديةٍ تفرض عليها الكثير من التَّدبير والتَّدابير.
3. الحركة الإسلاميَّة صوتٌ واحدٌ، ولا مجال في الدَّعوة لأيِّ خروجٍ عن الثَّوابت، حتى ولو اختلفت الأدوات والمناهج.
4. التَّربية مفتاح التَّقدُّم، والفرد الصَّالح هو أساس أيِّ مشروعٍ حضاريٍّ
في المنهج والهدف
يقول الإمام الشَّهيد حسن البنَّا رحمه الله، في متسهل رسالة "دعوتنا": "إنَّ دعوة الإخوان المسلمين دعوةٌ بريئةٌ نزيهةٌ، قد تسامت في نزاهتها حتى جَاوَزَت المطامع الشَّخصيَّة، واحتقرت المنافع المادِّيَّة، وخلَّفت وراءها الأهواء والأغراض، ومضت قُدُمًا في الطَّريق التي رسمها الحق تبارك وتعالى للدَّاعين إليه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [سُورة "يُوسُف"- الآية 108].. فلسنا نسأل الناس شيئًا، و لا نقتضيهم مالاً ولا نطالبهم بأجرٍ، ولا نستزيد بهم وجاهةً، ولا نُريد منهم جزاءً ولا شكورًا، إنْ أجرنا في ذلك إلاَّ على الذي فطرنا".
بهذه الكلمات القليلة العدد، والكبيرة في معناها، حدَّد الإمام المُؤسِّس معالم المنهج الإسلاميِّ الحركيِّ، والقواعد الأخلاقيَّة التي تحكمه، والتي سيطرت على تاريخ الحركة الإسلاميَّة الطَّويل.
ولقد كان لتعاليم الإسلام الحنيف، ومنابعها الأساسيَّة في القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة المُطهَّرة، والتي وضع نفرٌ غير قليلٌ من أساتذة ومُنظِّري الحركات الإسلاميَّة على اختلاف أطيافها، تفسيراتها في كتاباتهم التي تمثِّل الرَّوافد الرئيسيَّة للفكر الإسلاميِّ القائم على أساس الاعتدال، بما في ذلك الدَّعوة الوسطيَّة والمشروع الإصلاحيُّ النهضويُّ للإخوان المسلمين.. كان لها دور رئيس في تحقيق عامل الاستمرار والوحدة في الهدف بين الحركات الإسلاميَّة، مهما مرت به من محنٍ وابتلاءات.
معالم معركة حضاريَّة
عندما بدأت الصَّحوة الإسلاميَّة مشروعها الكبير، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كانت الرموز الفكريَّة والحركيَّة لها تعلم تمامًا أنَّهم في سبيلهم إلى خوض معركةٍ كُبرى، مع تصادُم هذا المشروع مع الكثير والكثير من العقبات، لم يكُن أصعبُها الظُّروف السِّياسيَّة والاجتماعيَّة التي كانت سائدةٌ في بلدان عالمنا العربيِّ والإسلاميِّ في ذلك الوقت؛ حيث أنظمةٌ فاسدةٌ، واستعمارٌ جاثمٌ، ومنظومةٌ تربويَّةٌ واجتماعيَّةٌ وثقافيَّةٌ تغريبيَّةٌ تسعى إلى محو هُويَّة الأوطان والأُمَّة، واستبدالها بأخرى لا تراعي قِيَمَنا أو دينننا أو تاريخنا.
كما كانت هناك العديد من القوى المحليَّة والدوليَّة التي لها مصالحها، والتي تتعارض بكلِّ تأكيدٍ مع مشروعات تيارات الصَّحوة الإسلاميَّة المختلفة لتحقيق نهضة الأُمَّة، وإعادة توحيدها على أساس منهجٍ وسطيٍّ تنويريٍّ يخرج بها من عصورٍ طويلةٍ من التَّخلُّف الحضاريِّ دخلتها الأُمَّة استجابةً لقوانين الخلق الإلهيِّ في العمران البشريِّ.
وبجانب نُظُمِ الحكم الفاسدة والضَّعيفة التي كانت سائدةٌ في كثيرٍ من دول العالم العربيِّ والإسلاميِّ، وقوى الاستكبار العالميِّ التي كانت تسيطر مباشرةً على كلِّ أركان الأُمَّة على امتدادها شرقًا وغربًا، كان هناك سرطانٌ خبيثٌ ينمو بين جنبات جسد الأُمَّة الغافلة الغارقة في مشكلاتها مع المحُنلِّ وفي معركتها مع التَّخلُّف سعيًا لاستعادة مجدٍ مفقودٍ ضائعٍ، ونقصد هنا المشروع الصُّهيونيُّ الذي له علاقاتٌ وثيقةٌ مع كلٍّ من الطَّرَفَيْن السَّابقَيْن.
فالمشروع الصُّهيونيُّ يستمد حمايته ووجوده من المشروع الاستعماريِّ الغربيِّ، فيما كان من مصلحة الآباء الأوائل للمشروع الصُّهيونيِّ أنْ تستمر نظم الحكم الدِّيكتاتوريَّة الفاسدة في الحكم في العالم العربيِّ والإسلاميِّ؛ لتعطيل مشروع الوحدة الإسلاميَّة الذي طرحه الإخوان وغيرهم، مع إغراق الشُّعوب العربيَّة والمسلمة في آتون الجهل والجمود والتَّخلُّف الذي أدَّت إليه هذه الأوضاع، وشغل الشُّعوب بمعاركٍ داخليَّةٍ تلهيها عن معركة الأُمَّة الحقيقيَّة في فلسطين.
منظومةٌ ومنهجٌ
مع شمول وعموم هذه المشكلات، ووضوح وعورة الطَّريق، كان يجب التَّفكير في وضع منظومةٍ إصلاحيَّةٍ متكاملةٍ لا تحاول الالتفاف على مختلف هذه المشكلات، وإنَّما مُواجهتها بكلِّ الوسائل، مع اعتماد درجةٍ من المُرونةٍ التي تكفل عدم وقوع المشروع الإخوانيِّ في هاوية الابتذال والسَّطحيَّة والشَّعارات، أو- في المُقابل- الدُّخول في صداماتٍ عنيفةٍ مُفاجئةٍ تُفقِد المشروع الإسلاميَّ جاذبيته أو تقضي عليه، فكانت وسائل الكرِّ والفرِّ والهجوم والتَّراجُع التِّكتيكيِّ كما في العلوم الإستراتيجيَّة والعسكريَّة واضحةٌ تمامًا نِصْبَ أعين مُنظِّري ومُؤسِّسي الجماعة الأوائل.
وكانت فكرة "المنهج" و"الهدف" أحد الأركان الرَّئيسة التي وضعتها الحركات الإسلاميَّة الكبرى، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، حتى لا تكون عشوائيَّةً، ولا تنتهي دعوتهم كما انتهت غيرها من المشروعات التي اكتفت بالنَّوايا الحَسَنة دون الخوض في البرنامج العمليِّ الذي من خلاله يمكن تحقيق الأهداف والغايات المَرْجُوَّةِ.
وفي هذا، وإذا عُدْنَا إلى أدبيَّات رموز الصَّحوة، ومن بينهم الإمام البنا ورشيد الرِّضا وعبد الرحمن الكواكبي، ومن قبل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، فإنَّنا نقف على مجموعةٍ من الأُطُرِ التي وضعوا فيها منطق الدَّعوة والصخوة بأسرها، والقلبَ العقليَّ الأساسيَّ الذي يحكمها.
فعلى سبيل المقال، وفي رسالته "إلى أي شيءٍ ندعو النَّاس؟"، وتحت عنوانٍ "من أين نبدأ؟"، يقول البنَّا: "إنَّ تكوين الأمم، وتربية الشُّعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ؛ تحتاج من الأُمَّة التي تحاول هذا أو الفئة التي تدعو إليه على الأقل، إلى "قوَّةٍ نفسيَّةٍ عظيمةٍ" تتمثَّل في عدَّة أمورٍ: إرادةٍ قويَّةٍ لا يتطرَّق إليها ضعفٌ، ووفاءٍ ثابتٍ لا يعدو عليه تلوُّنٌ ولا غدرٌ، وتضحيةٍ عزيزةٍ لا يحول دونها طمعٌ ولا بخلَّ، ومعرفةٍ بالمبدأ وإيمانٍ به وتقديرٍ له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه، والخديعة بغيره. على هذه الأركان الأوَّليَّة التي هي من خصوص النُّفوس وحدها، وعلى هذه القوَّة الرُّوحيَّة الهائلة، تُبْنَى المبادئ وتتربَّى الأُمم النَّاهضة، وتتكوَّن الشُّعوب الفتيَّة، وتتجدَّد الحياة فيمن حُرموا الحياة زمنًا طويلاً".
أي إنَّ هناك مجموعةً من الأعمدة الرَّئيسة للدَّعوة، تقوم على مجموعةٍ من الأسس اتفقت فيها جميع الحركات الإسلاميَّة، ومن بينها:
- الإرادة القويَّة.
- الوفاء.
- التَّضحية.
- المعرفة بالمبدأ.
وقد أدَّت واحديَّة المرجعيَّة والهدف، بما فيها من تفاصيلٍ، مثل واحديَّة البرنامج التَّربويِّ والتَّلقين الدَّعويِّ الأصيل في بعض الأحيان، إلى أنْ تقف الحركات الإسلاميَّة على قلب وعقل رجلٍ واحدٍ طيلة العقود الماضية، ومع سمو الفكرة وعمق المنهج تمسَّك القائمين عليها وأعضائها بنهجهم؛ فقد ساروا على طريقهم، من دون النَّظرِ إلى أيَّة تبعاتٍ أخرى، سواءً أكانت هذه التَّبعات تتعلَّق بمصالحٍ ذاتيَّةٍ أو النَّظر إلى ما قد يترتَّب من متاعبٍ للمرء المسلم بسبب سَيْره على طريق الدَّعوة، مهما كانت الأشواك.
ومنهاج الصَّحوة والحركة الإسلاميَّة، واضحٌ تمامًا، وموحَّدٌ، و ليس مُعقَّدًا، فهو يعتمد على صميم ما دعا إليه الله عزَّ وجل في قرآنه الكريم، وفيما شرحته السُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة، وهو من قلب عقيدة المسلم، ولم يختلق المنهج الصَّحويُّ جديدًا في حياة المسلم العادي الملتزم، فكل ما فعله أنْ وضع إطارًا عمليًّا لتطبيق تعاليم الإسلام في إطارٍ من الوسطيَّة والاعتدال، ولضمان أنْ يقوم الإنسان المسلم العامل في إطار الدَّعوة بأداء ما عليه من التزاماتٍ تجاه ربه وتجاه جماعته.
وفي هذا لا يمكن القول: إنَّ المناهج التَّربويَّة والفكريَّة للحركات الإسلاميَّة تؤدِّي إلى جمود الفكر والكسل عن التحصيل والمعرفة وإلزام الفرد المسلم بقوالبٍ ثابتةٍ مفروضةٌ عليه، فما ندعو إليه إنَّما هو الإسلام النَّقيُّ الحنيف.
وبالتَّالي، فإنَّنا إذا أمعنَّا الفكر والنَّظر في تعاليم الإسلام، لوجدناه بجانب أنَّه الأشمل والأنسب لكلِّ زمانٍ ومكان، مع عموميَّة أحكامه، وتناسبها مع الفطرة الإنسانيَّة السَّليمة، فكما دعا الإسلام إلى مكارم الأخلاق والسمو الرُّوحي، دعا إلى طلب العلم، والسَّعي في الأرض والتَّفكَّر في الخلق الإلهي، وكلها أمورٌ من صميم المنهج العلميِّ.. فإوَّل ما نزل من القرآن كان ﴿اقْرَأْ﴾.
وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تدعو إلى إعمال الفكر والعقل فيما نراه من حولنا ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ [سُورة "المُلك"- من الآية 15]، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سُورة "فُصِّلَتْ"- الآية 53].
إذن، الحكمة التي هي ضالَّة المُؤمن كما قال نبيُّنا الكريم صلى الله عليه وسلَّم، لا يُمكن تحقيقها من دون السَّعي والتَّدبُّر وإعمال الفِكر، وبالتالي فلا مجال للقول: إنَّ مناهج الإخوان التَّربويَّة والدَّعويَّة التي قامت على هذه الأُسُس تؤدي إلى جمود الفكر والعقل، وقولبته.
وفي النَّهاية، ندعو كلَّ العاملين في الحقل الإسلاميِّ إلى الثَّبات على الموقف، مهما كانت العقبات والصُّعوبات، ومهما كانت التَّضحيات؛ حيث الجهاد فريضةٌ، وحيث يدعونا منهجنا القويم القائم على تعاليم الإسلام إلى الثَّبات والتَّضحية.
ونُذكِّر في هذا الإطار بقول الله تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)﴾
كما ندعو إلى الاعتصام بحبل الله تعالى، ونبذ الفرقة، في مواجهة التحديات القائمة أمام مشروع الصَّحوة كالجبال الرَّاسيات.