نقاشاتنا.. بين العموميات وإتقان فنون الحوار

الرئيسية » بصائر من واقعنا » نقاشاتنا.. بين العموميات وإتقان فنون الحوار
alt

ليس غريباً أن تتنوَّع الآراء والثقافات والأفكار، وذلك لأنَّ العقول تتفاوت فيما بينها من حيث النظرة وآلية الوصول للمعرفة، ناهيك عمَّا تعايشه النفوس من أحداث وما تتلمسه من دروس واقعية، وما تستخدمه من أدوات للوصول إلى حقيقة الشيء وماهيته.

وبناءً على هذا التعدّد تكثر النقاشات للوصول إلى مرحلة إعطاء هذه الفكرة أو تلك قوة تستند إليها، ألا وهي قوَّة الحجَّة والأدلة، التي تجعل من هذه الفكرة رأيأ معتبراً، له ما يستند إليه، وما يشجّع صاحبه لدعوة الآخرين إليه، والإيمان به واعتناقه، والعمل بمضمونه.
كلَّما كان الرأي أقرب إلى الواقعية، وتحقيق المقاصد العامة للبشرية، وجلب المصالح ودرء المفاسد عنهم، كلَّما كان هذا عاملاً من عوامل قوته، ممَّا يؤدِّي إلى تمسك الناس به، والإيمان بمبادئه.
وكلَّما كان الرأي أقرب إلى الواقعية، وتحقيق المقاصد العامة للبشرية، وجلب المصالح ودرء المفاسد عنهم، كلَّما كان هذا عاملاً من عوامل قوته، ممَّا يؤدِّي إلى تمسك الناس به، والإيمان بمبادئه.

ولهذا وجدنا على مدار السنين، أفكاراً كثيرة فقدت مقوّمات استمرارها، وبرامج عديدة فقدت قيمتها، وكانت إلى الخيال أقرب منها إلى الواقع، ونظريات فقدت مصداقيتها حينما وضعت على المحك، وأخرى أثبتت صدقها، رغم ما تعرضت له من ضغوطات ومعوقات، ومصادرة لأبسط حقوقها.

وهذا كله راجع إلى مدى مواءمة الأفكار للواقع، ومقدار تحقيقها للمصلحة، وحل المشكلات التي أنيط حلها بها، ومدى صلاحيتها للاستمرار باختلاف الأزمنة والامكنة والأشخاص.

وتزداد هذه الآراء تعدّداً، وما يتبعها من نقاش وحوار، ومناظرة وجدل، إذا كان الناس يلتمسون أفكاراً تنهض بهم، وتحلّ مشكلاتهم، وتحافظ على حريتهم، وتمنع عنهم أي طريق للاستبداد والطغيان.

حرب النقاش !
إنَّ من النتائج المنطقية لتعدّد الأفكار والرؤى والبرامج، أن يحتدم النقاش بين مناصريها حول مدى رجاحة فكرة كل منهم، وأحقيتها للانتشار والتوسع، وجمع المناصرين، وإيجاد الوسائل الكفيلة بتحقيقها وجعلها واقعاً يعايشه البشر، وليس حبيس الورق والعقول والكتب.
ولهذا وجدنا الكثير من السَّاحات الساخنة التي تحتضن مثل هذه النقاشات، على رأسها الوسائل الإعلامية المرئية، والمقروءة، والمسموعة، والإلكترونية وغيرها. حيث تكون مليئة بتلك الأدلة التي يسردها أنصار كلّ فكرة لمناصرة فكرتهم، وفي الوقت نفسه ، إظهار عيوب الأفكار الأخرى، وإبراز تناقضاتها، وعيوب تطبيقها، وصعوبة التعايش معها، إلى غير ذلك من الأمور.

ويبرز النقاش بشكل كبير، بين أصحاب الفكرة الإسلامية، وغيرها من الأفكار، ذات التوجهات المختلفة، خصوصاً حينما تكون الأمَّة مشغولة بمرحلة البناء والنهضة، بعد الثورة ونيل الحرية، تماماً كما حصل في تونس ومصر، بحيث يدور النقاش حول أحقية الأفكار في الانتشار والاتباع، وخدمة أهدافها وغاياتها.
ليس كلّ من يستطيع التكلم أو إلقاء خطبة بالناس، يصلح للنقاش والمناظرة، فشتان بين الخطيب، والواعظ، وبين المنظّر، والمدافع
وكشيء طبيعي، يقوم المنظّرون والمناصرون، بالتصدي للنقاشات، ورد وتفنيد المزاعم التي يوجهها خصومهم لأفكارهم ومبادئهم ، وإقناع الناس بوجهة نظرهم، وإفحام الخصوم بالأدلة والبراهين والحجج.

العموميات والمصطلحات
لكنَّنا نجد في خضم هذه النقاشات، تفاوتاً في الأداء بين المناقشين والمدافعين، فنصف البعض بأنه قويّ متمكّن، والآخر بأنه ضعيف سطحي، ونجد البعض يدور في العموميات، ويحرج إن طلب منه الوقوف على مصطلحات محدّدة، لأنَّه ربما لا يعرفها، أو إن خاض فيها، أظهر التناقض بين طبيعة المصطلح والفكرة التي يريد، مما يعطي للآخرين فرصة لاقتناص الخلل، وإظهار التناقض في فكره ورأيه. في حين نجد البعض الآخر يسير بخطى واثقة في النقاش، ويتناول المفاهيم والمصطلحات وفق محدداتها المعروفة، ويعالجها بمنطق علمي قائم على البراهين المقنعة، والأدلة المفحمة ممَّا يؤدِّي إلى إقناع الآخرين بالفكرة، وتشجيعهم على اتباعها وتأييدها.
إنَّ أصالة الأفكار وصحتها شيء، وإقناع الآخرين وكسب النقاش شيء آخر
ولهذا فليس كلّ من يستطيع التكلم أو إلقاء خطبة بالناس، يستطيع القيام بهذا الدور الحساس، لأنَّها تحتاج إلى مهارات وفطنة، وثقافة وفهم، وشتان بين الخطيب، والواعظ، وبين المنظّر، والمدافع، فالأوَّل يلقي كلامه بين مناصريه ومن يوافقونه في الفكرة، في حين أنَّ الثاني يناظر ويجادل مخالفيه أصحاب الثقافات المتنوعة، والذين يحتاجون إلى خطاب مختلف في الأسلوب، ومغاير في طريقة الطرح والعرض.

إنَّ أصالة الأفكار وصحتها شيء، وإقناع الآخرين وكسب النقاش شيء آخر، فنحن نؤمن أن ديننا وما يوافق روحه وفلسفته ومقاصده؛ من أفكار ورؤى هي الأحق بالاتباع والأولى بالتطبيق. إلاَّ أنَّ ذلك الإيمان يحتاج إلى قوَّة منطقية تسانده تقنع الآخرين من المخالفين والمعارضين والمشككين والمتردّدين، وتزيد يقين المؤمنين والمناصرين لها والتضحية لأجلها.

إنَّ القرآن الكريم، كمصدر أوّل لنا، مليء بالأدلة العقلية المقنعة، والحجج الدامغة، على صحة ما جاء فيه، وهو ما جعل الكثير من الناس يسلمون ليس لكونه كتاباً إلهياً فحسب، بل لكونه يحوي تلك البراهين القاطعة، والتي جعلت أصحاب العقول السليمة يؤمنون بما جاء به ويدعو إليه.
إنَّ أصحاب الفكرة الإسلامية، لابد أن ينصبوا للحوار، من يتقن فنونه، ويحسن التعامل معه، ويملك القدرة على إقناع الآخرين، ويعرف ماهية الأفكار الآخرى، وأوجه الاتفاق والاختلاف معها، ناهيك عن تمتعه بثقافة واسعة، وقدر كبير من المعرفة، مزيّناً ذلك بحسن العرض، وترتيب الأفكار ووضوحها واختصارها، بحيث لا يتشعب في نقاشه، فيبعده عن الطريق السليم، وجادة الصَّواب.

معلومات الموضوع

الوسوم

  • الحوار
  • اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
    كاتب فلسطيني، متخصص في الشريعة الإسلامية والسياسة، مهتم بالإعلام والتربية والتعليم.

    شاهد أيضاً

    من عوامل ثبات أهل غزة

    قال تعالى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم …