إنَّ ممَّا لاشك فيه، أنَّ العبادة مفهوم عام يشمل جميع أعمال المسلم، ويتناول علاقته بربِّه وبغيره وبنفسه، فهو مفهوم كلي، لا يقتصر على صنف دون آخر، أو فئة دون غيرها.
وفي الوقت نفسه ، فإنَّ العبادة، تستهدف الروح والجسد، و الظاهر والباطن، فليست حركات خاوية، لا تحمل معنى أو مضموناً، وهي ليست أموراً روحانية محضة لا علاقة لها بالسلوك والتعامل مع الآخرين.
وذلك لأنَّ العبادة تشكل معالم الشخصية الإسلامية، وهي شخصية مميّزة في كل جوانبها، ولا تحمل تناقضاً بين أي من ملامحها وأوصافها، وفي الوقت ذاته، يظهر تميّزها على تصرفاتها وسلوكها وطبيعة علاقتها مع الآخرين.
بين النص والجوهر ..النصوص الشرعية ربطت بين القيام بالعبادة، وتحقيق آثارها في النفس والمجتمع
لا يخفى على من يتدبَّر النصوص الشرعية، أنَّها لم تتناول العبادات كمفاهيم مجرَّدة، بحيث لا تحقّق أيّاً من المعاني السلوكية في نفوس أصحابها، بل نجد النصوص الشرعية قد ربطت بين القيام بالعبادة، وتحقيق آثارها في النفس والمجتمع .. ومن الأمثلة على النصوص :
- {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]
- {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة:183].
- {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم} [التوبة: 103].
- {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة :197].
وهناك الكثير من النصوص التي تناولت هذا الأمر، بحيث ربطت بين أداء العبادة، وتحقيق الآثار التربوية، والمقاصد السامية في نفس صاحبها، مما يؤدي إلى تكوين شخصية إسلامية، تتميز بصلاح الظاهر، ونقاء الباطن والسريرة.
ولهذا وجدنا سلف الأمَّة، قد ضربوا أروع الأمثلة في مواقفهم النابعة من التأثر بتلك التعاليم الربانية، ممَّا انعكس إيجاباً على واقع مجتمعهم، و أدَّى إلى وحدة صفهم، وجمع كلمتهم، وتحقيق نهضتهم، ونشر دينهم بين الناس.
سوء فهم ..
لكن يظهر الكثير من الناس، ممَّن يسيئون فهم فلسفة العبادة وروحها، فيظنوا أنَّ العبادة ليست إلاَّ تلك الشكليات الظاهرة، دون أن يتأثر القلب بها، فيقصروها على الشكل دون الجوهر والحقيق يظهر الكثير من الناس، ممَّن يسيئون فهم فلسفة العبادة وروحها، فيظنوا أنَّ العبادة ليست إلاَّ تلك الشكليات الظاهرة، دون أن يتأثر القلب بها، فيقصروها على الشكل دون الجوهر والحقيقة. فترى أحدهم يركّز جلَّ اهتمامه على رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، أو في حركة إصبعه عند التشهد، دون أن يفقه ما يقول، أو تتأثر نفسه بتلك الصلاة التي تصله بخالقه وتقربه منه.
ومن الصور الواضحة على ذلك، ما رصدته( بصائر) في المشاعر المقدسة، في مكَّة المكرمة والمدينة المنورة، حيث يتزاحم الناس على مظاهر العبادة، حتَّى لو كان على حساب أمور أخرى، وحتَّى لو ألحق الأذى للغير من الناس، أو أدَّى إلى ذهاب الغاية من تلك العبادة، وأصبحت قاصرة على فعل مجرد، لا معنى له، سوى التقليد والتبعية وتركيز الاهتمام على أمور جامدة، غاب المعنى عنها.
فمثلا في روضة رسول الله، والتي قال عنها النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم، بأنَّها روضة من رياض الجنة، نجد النَّاس – كما في الصورة- يتزاحمون للدُّخول والصَّلاة فيها، حتَّى لو أدَّى إلى صلاة لا يتم ركوعها أو سجودها كما يجب، وفي الوقت نفسه، يقف أمام المصلين ليعطل عليهم صلاتهم ويلحق الأذى بهم، لمجرد الوقوف في تلك البقعة المباركة!!
والبعض الآخر، يجلس في الروضة ساعات وساعات، ويحرم المسلمين الآخرين من الدخول إليها ظاناً أنه يتقرّب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهذا الأمر. ونسي أن المكوث في الروضة لا يحقّق التقرّب للرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام وإنما يحققه الاتباع واقتفاء أثره، والسير على خطاه، وفهم منهج السلف الذين اتبعوه.
وقد تحدَّث عن ذلك الشيخ الغزالي رحمه الله في كتابه القيم "فقه السيرة" فقال رحمه الله ص21 : ( ففي مسجد النبي -صلَّى الله عليه وسلم- بالمدينة رأيت حشداً من الناس يتلمس جوار الروضة الشريفة ويود أن يقضي العمر بجانبها. ولو خرج النبي حياً على هؤلاء لأنكر مرآهم وكره جوارهم.
إنَّ رثاثة هيئتهم، وقلة فقههم، وفراغ أيديهم، وضياع أوقاتهم، وطول غفلتهم، تجعل علاقتهم بنبي الإسلام أوهى من خيط العنكبوت.
قلت لهم: ما تفيدون من جوار النبي؟ وما يفيد هو نفسه منكم؟
إنَّ الذين يفقهون رسالته ويحيونها من وراء الرمال والبحار أعرف بحقيقة محمد -صلَّى الله عليه وسلم- منكم.
إنَّ القرابة الروحية والعقلية هي الرباط الوحيد بين محمد عليه الصلاة والسلام ومن يمتون إليه. فأنَّى للأرواح المريضة والعقول الكليلة أن تتصل بمن جاء ليودع في الأرواح والعقول عافية الدين والدنيا ).
وفي صورة أخرى، نجد النَّاس يقتتلون على فعل واحدة من الأمور المستحبة، وهي تقبيل الحجر الأسود، فيظنوا أنَّ العمرة مثلاً، لا تقبل ما لم يقوموا بلمس الحجر الأسود وتقبيله. وحتى لو أدى ذلك إلى إيذاء الناس وضربهم. و في نفس الوقت، لا تجد النساء حرجاً من مزاحمة الرجال، ودفعهم، وقد يؤدي هذا الزحام إلى نزع حجابها، أو غير ذلك في سبيل الوصول إلى الحجر وتقبيله.
إنَّ المسلم لابد وأن لا ينظر للعبادة كصورة مجردة، لا تحقق نتيجة أو تترك أثراً، وإنَّما لابد وأن يجعل العبادة منبعاً لتحسين مظاهره وتعامله وتغيير جوهره وحقيقته نحو الغاية التي يهدف إليها الإسلام من القيام بالعبادة وأدائها.
وقد نسي هؤلاء، أنَّ العبرة ليست في تقبيل الحجر الأسود، أو لمسه، فهو حجر لا يضر ولا ينفع، ولا يغني تقبيله أو لمسه عمن يؤذي الناس، أو من تخالط الرجال، وتزاحمهم وتدافعهم كأنَّها في حرب !!
إنَّ تقبيل الحجر الأسود عبادة لها أجر، وأمر مستحب، ولكنها ليست عبادة مجردة عن مضمونها، ولا يمكن أن تكون العبادة مؤذية للآخرين من العبّاد المسلمين.
ولهذا فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، لكيفية التعامل مع هذا الموقف، فقال له : ( يا عمر، إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر). (رواه أحمد والبيهقي وغيرهما، وله شواهد).
ولهذا لابد للمسلم من تحقيق الموازنة، بين ظاهر العبادة، ومدى أثرها في النفس، وفي نفس الوقت، الموازنة بينها وبين غيرها من العبادات، فلا يقدم المندوب أو المستحب على الواجب، ولا يرتكب المحرم في سبيل الوصول إلى أمر مباح أو مستحب، تماما كالمشاجرة والمدافعة، للوصول إلى الملتزم، أو الإمساك بأستار الكعبة.
إنَّ المسلم لابد وأن لا ينظر للعبادة كصورة مجردة، لا تحقق نتيجة أو تترك أثراً، وإنَّما لابد وأن يجعل العبادة منبعاً لتحسين مظاهره وتعامله وتغيير جوهره وحقيقته نحو الغاية التي يهدف إليها الإسلام من القيام بالعبادة وأدائها.