في مكَّة المكرمة ولدت نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عام 145 هـ، وفي البلد الحرام عاشت نفيسة مع أحفاد رسول الله –صلَّى الله عليه وسلَّم - ، فتأثرت بهم ، وسارت على نهجهم ، فحفظت القرآن الكريم ، وأقبلت على فهم آياته وكلماته كما حفظت كثيراً من أحاديث جدها – صلى الله عليه وسلم -.
نظرت نفيسة إلى الدنيا فوجدتها فانية زائلة ، فأعرضت عنها ، وزهدت فيها، فأقبلت بوجهها إلى الله تستغفره، وتتوسل إليه، وتطلب منه العفو والغفران، ولمَّا بلغت نفيسة مبلغ الشابات تقدَّم لخطبتها ابن عمِّها إسحاق المؤتمن بن الإمام جعفر الصَّادق ، فرضيت به زوجاً لها .
وكانت نعم الزوجة المخلصة الأبية التقية، وانتقلت السيدة نفيسة مع زوجها إلى المدينة المنورة، حيث عاشت فيها آمنة مطمئنة، وفتحت بيتها لطلاب العلم، تروي لهم أحاديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم-، وتفتيهم في أمور دينهم ودنياهم ، حتى أطلقوا عليه اسم : ((نفيسة العلم والمعرفة)).
وبلغت في العلم قدراً شهد فيه أئمَّة العلم، وفي عام 193 هـ وصلت السيدة نفيسة إلى مصر بصحبة والدها وزوجها، واستقبلها المصريون استقبالاً حافلاً، وسُرَّ أهل البلاد بقدوم حفيدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، واستقرت في الفسطاط بدار ابن الجصَّاص، وهو إذ ذاك كان من أعيان مصر.وكانت تقول : (( الصَّبر يلازم المؤمن بقدر ما في قلبه من إيمان، وحسب الصابر أن الله معه
استمرت السيدة نفيسة في حياة الزهد والعبادة؛ تقوم الليل، وتصوم النهار، حتى طلب منها زوجها ذات يوم أن تترفق بنفسها . فقالت : من استقام مع الله، كان الكون بيده وفي طاعته.
وكانت تعرف أنَّ الفوز بجنة الخلد ، يحتاج إلى الجد في العبادة، والزهد في ملذات الدنيا، فكانت دائماً تقول : لامناص من الشوك في طريق السعادة، فمن تخطاه وصل .
وداومت السيدة نفيسة على زيارة بيت الله الحرام، وقيل :إنَّها أدت شعيرة الحج ثلاثين مرَّة، تذهب إلى هناك لتجدد العهد مع الله على الطاعة، والاستجابة لأوامره، والابتعاد عن كل ما يغضبه .
كانت عظيمه القدر والمكانة عند أهل مصر، فكانوا يذهبون إليها، يلتمسون عندها العلم والمعرفة ، بل كان يقصد دارها كبار العلماء، فقد تردَّد عليها الإمام الشَّافعي، وكانت تستقبله من وراء حجاب، وتناقشه في الفقه وأصول العبادة وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- .
وحين مرض الإمام الشافعي أرسل إليها يسألها الدعاء له بالشفاء ، ووافته المنية بعد أيام ، وكان أوصى أن تصلي عليه السيّدة نفيسة ، فصلت عليه بعد أن صلى عليه الرِّجال ، وحزنت لأجله .
وكانت – رضي الله عنها – تجير المظلوم، ولا تهدأ حتى ترفع الظلم عنه، وتعد ذلك جهاداً، فقد روي أن رجلاً ثريّاً بغي بعضُ أولي الأمر عليه، فاستجار بها، فساعدته في رفع الظلم عنه، وواجهت ظالميه حتى استرد حقه، ودعت له بالخير والبركة ، فأهداها الرجل مائة ألف درهم شكرا لها، واعترافا بفضلها، فوزعتها على الفقراء والمساكين، وهي لا تملك ما يكفيها من طعام يومها .
وبعد سبع سنوات من الإقامة في مصر، مرضت السيِّدة نفيسة، فصبرت ورضيت ، وكانت تقول : (( الصَّبر يلازم المؤمن بقدر ما في قلبه من إيمان، وحسب الصابر أن الله معه ، وعلى المؤمن أن يستبشر بالمشاق التي تعترضه، فإنَّها سبيله لرفع درجته عند ربِّه، وقد جعل الله الأجر على قدر المشقة، والله يضاعف لمن يشاء ، والله واسع عليم )).
وقالت أيضاً: (( لقد ذكر الصبر في القرآن الكريم مائة و ثلاث مرات، وذلك دليل على قيمة الصبر ، وعلو شأنه ، وحسن عاقبته)).
و في صحن دارها، حقرت لنفسها حفرة تشبه القبر استعداداً للقاء خالقها، ومالكها، وكانت تنزل فيه وتصلي كثيراً، حتى أنّها قرأت فيه المصحف مائة وتسعين مرَّة ، وهي تبكي بكاء شديداً.
لمَّا أحست السيدة نفيسة أنَّ النهاية قد اقتربت، أرسلت إلى زوجها إسحاق المؤتمن، تطلب منه الحضور، وكان في المدينة المنورة .
وفي اليوم الأخير كانت السيدة نفيسة صائمة كعادتها، فألحوا عليها أن تفطر رفقاً بها، وهي تعالج سكرات الموت، لكنَّها أصرَّت على الصَّوم رغم لحظات الاحتضار ، وقالت : واعجباً، منذ ثلاثين سنة،أسأل الله تعالى أن ألقاه وأنا صائمة ، أأفطر الآن !؟ هذا لا يكون .
ثمَّ راحت تقرأ بخشوع من سورة الأنعام ، حتَّى وصلت إلى قوله تعالى : (لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) الأنعام (127) .
وفي هذه اللحظة فاضت روحها إلى بارئها ، فبكاها أهل مصر ، وحزنوا لموتها حزناً شديداً، وحينما أراد زوجها أن ينقل جثمانها إلى المدينة، منعه النَّاس ودفنت في مصر .
وقد كانت السيدة نفيسة من العابدات الزاهدات القانتات الله، كما كانت مصباحاً أضاء الطريق للسالكين الحيارى، وقدوة يحتذى بها في التقوى والإيمان ، ومثالاً رائعاً للبطولة في أجلّ و أعظم صورها، وهي تقوى الله وحسن الصلة به. فرضي الله عنها وأرضاها .
المرجع :
- بطولات نسائية في تاريخ أمتنا العربية - إبراهيم الأشقر