لاشك أنَّ الاختلاف في وجهات النظر وتقدير الأشياء والحكم عليها أمر فطري طبيعي، له علاقة بالفروق الفردية إلى حدٍّ بعيد، إذ يستحيل بناء الحياة وقيام شبكة العلاقات الاجتماعية بين الناس أصحاب القدرات الواحدة والنمطية الواحدة، فاختلاف التنوّع ظاهرة صحية؛ لأنَّ حكمة الله سبحانه في خلقه اقتضت أن يكون بين الناس فروق فردية سواء أكانت خلقية أم مكتسبة، وكلٌّ ميسرٌ لما خلق له، وعلى ذلك فالنَّاس مختلفون، قال الله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين}. (هود:118). لكنَّ الاختلاف المذموم الذي نهى عنه الله عزَّ وجل هو اختلاف التضاد والتناحر الذي ينذر بتآكل وتصدّع الصف الإسلامي، ويورث أتباعه حياة فاشلة ويؤدِّي إلى ذهاب الرِّيح، قال الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}. (الأنفال: 26). وحذَّرنا من السقوط في علل أهل الشرائع السَّابقة، وقصَّ علينا تاريخهم للعبرة والحذر، فقال:{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } . (الرُّوم:31ـ32).
ولتحقيق الوعي الثقافي بهذه المشكلة ومعالجة جذور الأزمة الفكرية التي أورثتنا الخلاف والتآكل الداخلي، وإيقاظ البعد الإيماني في نفوس المسلمين بعد أن كاد يغيب عن حكم علاقاتنا وتوجيهها الوجهة الصحيحة بسبب من الفهم المعوِّج والممارسات المخطئة ومن ضغوط المجتمعات غير الإسلامية، يأتي كتاب (أدب الاختلاف في الإسلام) لمؤلفه الدكتور طه العلواني ليضع لبنة مهمَّة في تأسيس ضوابط وآداب للحفاظ على لحمة المجتمع الإسلامي من التعرّض لتداعيات الاختلاف المذموم، ويسهم في تعزيز الوعي وإيقاظ البعد الإيماني الذي يحكم علاقة الأفراد والجماعات فيما بينهم، ويعطي نماذج ناصعة من تاريخنا الإسلامي من أدب الاختلاف، فهو كتاب جدير بالقراءة والدراسة والتلخيص، فإلى التفاصيل ...
مع الكتاب :
يقول مؤلفه في مقدمة الكتاب : (إنَّ من اخطر ما أصيبت به هذه الأمَّة في الآونة الأخيرة مرض (الاختلاف والمخالفة)؛ الاختلاف في كلِّ شيء، وعلى كلِّ شيء، حتَّى شمل العقائد والأفكار والتصوّرات والآراء إلى جانب الأذواق والتصرفات والسلوك والأخلاق، وتعدَّى الاختلاف كلّ ذلك حتَّى بلغ أساليب الفقه، وفروض العبادات، وكأنَّ كلَّ ما لدى هذه الأمة من أوامر ونواه يحثها على الاختلاف أو يدفعها إليه والأمر عكس ذلك تماماً، فإنَّ كتاب الله وسنة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ما حرصا على شيء بعد التَّوحيد حرصهما على تأكيد وحدة الأمَّة، ونبذ الاختلاف بين أبنائها، ومعالجة كل ما من شأنه أن يعكِّر صفو العلاقة بين المسلمين، أو يخدش أخوة المؤمنين).
ويقول د. العلواني: (ما يحزُّ في النفس أن يعمل بعض أبناء المسلمين على تحطيم أجنحة الصحوة الإسلامية وتكبيلها بقيود الاختلاف غير المنضبط حول ما يستحق وما لا يستحق، الأمر الذي شغل المسلمين بأنفسهم، وبدَّد الكثير من طاقاتهم، وخلط أمامهم الأشياء خلطاً عجيبا جعلهم لا يفرِّقون بين الهنّات والهيّنات وعظائم الأمور، وبين يسيرها وجليلها، فكيف يمكن لقوم هذا شانهم أن يعالجوا قضاياهم حسب أهميتها، وأن يرتبوا الأمور بشكل يجعلهم قادرين على استئناف مسيرة الحياة الإسلامية؟!).
ويجيب الدكتور طه في هذا الكتاب عن جملة من الأسئلة منها: ما حقيقة الاختلاف؟ وما الحدود التي لا يجوز تجاوزها فيه؟ وما أسبابه؟ وما القدر المسموح به منه؟ وما ضوابطه وآدابه؟ وما السبيل للتخلص من سلبياته؟
رتَّب المؤلف كتابه على مقدّمة وستة فصول وخاتمة، أمَّا المقدَّمة فأوضح فيها داء الاختلاف بين المسلمين في هذا العصر وأنَّه من أخطر المشكلات التي تتعرَّض الأمَّة، حيث انتشر في كلِّ تفاصيل حياتها، على عكس ما جاءت به النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي حضَّت بعد الإيمان بالله على الوحدة والائتلاف بين المسلمين.
وأمَّا فصول الكتاب، فقد جاءت على النحو التالي :
الفصل الأول: في بيان حقيقة الاختلاف وما يتصل بها.
الفصل الثاني: تاريخ الاختلاف وتطوره.
الفصل الثالث: اختلاف مناهج الأئمة في الاستنباط.
الفصل الرَّابع: أسباب الاختلاف وتطورها.
الفصل الخامس: في معالم الاختلاف بين الأئمَّة وآدابه.
الفصل السَّادس: الخلاف بعد القرون الخيرة وآدابه.
يحوي الكتاب بين 178 و200 صفحة، حسب اختلاف الطبعات الكثيرة والمتنوعة للكتاب، أشهرها وأقدمها التي جاءت ضمن سلسلة كتَّاب الأمَّة سنة 1984م.
مع المؤلف :
هو الدكتور طه جابر فيَّاض العلواني.
ولد في مدينة الفلوجة بالعراق سنة 1935م، درس الثانوية في العراق، ثمَّ أكمل دراساته العليا في مصر، فحصل من جامعة الأزهر الشريف على شهادة الليسانس سنة 1959م، والماجستير سنة 1968م، الدكتوراه في أصول الفقه سنة 1973م.
عمل أستاذاً للفقه وأصوله في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمَّد بن سعود، ورئيساً لقسم البحوث والدراسات في المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ورئيس تحرير مجلة إسلاميَّة المعرفة المؤسّس، الصادرة عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا.
شارك في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في أمريكا، وترأس المجلس الفقهي لأمريكة الشمالية، وجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية SISS في أمريكا، التي أصبحت جامعة قرطبة منذ 2002م، وهو رئيسها حالياً.
عضو في مجامع إسلامية وفكرية وفقهية عالمية؛ من أبرزها: مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، والمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة (مؤسسة آل البيت- بالأردن)، اللجنة التنفيذيَّة لمجمع التقريب بين المذاهب، وغيرها).
شارك في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية واللقاءات الأكاديمية شملت قارات: إفريقية، وآسيا، وأوروبة، وأمريكا.
له العديد من المؤلفات والدراسات، من أبرزها: الاجتهاد والتقليد في الإسلام، والمحصول في علم الأصول، وحاكمية القرآن، وفي فقه الأقليات المسلمة، والأزمة الفكرية ومناهج التغيير، ومعالم في المنهج القرآني، وغيرها الكثير.