التربية الرَّبانية في رحلة الإسراء والمعراج

الرئيسية » بصائر تربوية » التربية الرَّبانية في رحلة الإسراء والمعراج
alt

"الإسراء والمعراج".. ذلك الحدث العظيم الملهم لكثير من العظات والعبر والدروس، والتي يتم تدارسها عاماً بعد عام، لتكون نوراً يضيء الطريق، ويثبت على الحق، لما فيه من مفاهيم تربوية عديدة، تهذِّب النَّفس وتزكيها وتجعلها تفيض بعبير الإيمان، وقوَّة الثبات على الحق، ومعرفة منزلة الدّعاة إلى الله وحقيقة هذه الدنيا التي يتسابق الناس إليها، ولو علموا ما فيها لعزفوا عنها وزهدوا فيها، وأدركوا حقيقة الأمانة التي حملها الإنسان، والتي من المفترض أن تجعله فارساً مثابراً مجاهداً لإحقاق الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرساء شرع الله في الأرض، لا أن يتلهى بالملذات وتختطفه الدنيا، ويتبع هوى نفسه.

والحديث عن الإسراء والمعراج يطول، إلاَّ أنَّ هذه الرحلة امتلأت بالعديد من الدروس التربوية التي تؤصل الإيمان في القلوب وتثبت  المؤمنين على الحق.

الإيمان ومراحله

كانت أحداث الإسراء والمعراج ضرباً من ضروب الخيال من وجهة نظر المشركين، وفرحوا حينما رأوا الرسول يقول كلاماً لا يقبله العقل من وجهة نظرهم، ولكنَّ أبا بكر وغيره من الصَّحابة الذين ثبتوا مع رسول الله لم يعرضوا هذا الكلام على العقل لأنَّ هناك مرحلتين من مراحل الإيمان؛ أولاً الإيمان بالله والتصديق بوجوده والمرحلة الثانية، هي الطاعة المطلقة لله دون أن تجادل الله في أمره، لماذا أمرك بهذا.

ومرحلة الإيمان تخطاها المؤمنون لذلك، فالتكاليف الشرعية لم تنزل لغير المؤمنين، وإنَّما نزلت للمؤمنين فقط ففي كل تكليف كان يبدأ بـ (يا أيها الذين آمنوا) لأنَّ المؤمنين قد آمنوا بالله وعلموا أنَّه هو الخالق، وهو الإله الذي لا إله غيره، وهو وحده المستحق للعبادة لذلك فحينما أؤمن بهذا الإله لا يحق لي بعد ذلك أن أناقشه فيما أمر لذلك لعن الله إبليس في حين أنَّه تاب على آدم وحواء، لأنَّ إبليس ناقش الله في أمره فقال }أأسجد لمن خلقت طينا {. (المؤمنون:61) . ولكن آدم حينما عصى أمر الله قال: }قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين    .{(الأعراف:23)، فإبليس آمن بالله ولكنه لم يطع الله، أمَّا آدم فقد آمن بالله وحينما عصى الله علم أنَّه عاصٍ فتاب إلى الله .

تمحيص الصَّف

كانت حادثة الإسراء والمعراج قرب نهاية المرحلة المكية من الدَّعوة، فقيل: إنَّها كانت قبل الهجرة بسنة واحدة، فكان يجب أن يحدث نوعاً من الغربلة والتمحيص للصف، وهذا العمل لابدَّ أن يحدث في كلِّ زمان ومكان، لفصل الغثّ عن الثمين، ولكي يتلاحق الغث بعضه إلى بعض فيركمه المربّي جميعاً، وينبذ به خلف ظهره ليحتفظ بالخير بعضه إلى بعض، فتزداد قوته ويصفو توجهه.

فثبت المؤمنون الصَّادقون، فأبو بكر الصديق جاءت له قريش تخبره عن ما يقوله الرَّسول في حادثة الإسراء والمعراج للايقاع بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم فما أخبروه سألهم: أوقد قال ؟ قالوا: نعم ، قال أبو بكر : إن كان قد قال ذلك فقد صدق.فسألوه أتصدقه في هذا ؟ قال أبو بكر : إني أصدقه في أبعد من هذا إني أصدقه أن خبر الوحي يأتيه من السماء في عشية وضحاها ، أفلا أصدقه أنه انتقل إلى البرزخ وصعد إلى السماء ، والله لهذه أصعب من هذه، فانطلق أبو بكر إلى الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، فإذا به يخبر الناس عن حادثة الإسراء والمعراج، وأبو بكر يهز رأسه ويقول صدقت، أشهد أنك رسول الله، فيقول له النبي : يا أبا بكر أنت الصّديق.

محبَّة الله للدّعاة ورفع منزلتهم

يرفع الله الإنسان بعبادته إلى منزلة الملائكة وقد رفع الله النبيَّ صلَّى الله عليه وسلّم إلى منزلة تفوق منزلة الملائكة، فحينما ذهب الرَّسول مع جبريل عليه السَّلام إلى سدرة المنتهى قال له جبريل: "يا رسول الله، أنا لو تقدمت لاحترقت،  ولو تقدمت أنت لاخترقت" وهذا الارتفاع في المنزلة ربَّما أراد الله أن يري رسوله أنَّه إن كان أهل الأرض لا يقدرون منزلته ويعلمون مكانته، فها هي منزلته ومكانته منزلة تفوق منزلة الملائكة
الفطرة نقية بطبيعتها

حينما عرض جبريل عليه السَّلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن والخمر فاختار النبي اللبن، فقال له جبريل قد أصبت الفطرة، فكأنَّ الفطرة تنسجم مع ما أمر الله به، ولكن الإنسان يتدخل ضد هذه الفطرة ليرضي شهواته وملذاته، فكما نعلم أن الخمر يعطل العقل الذي هو مناط التكليف، لأنَّ المجنون لا تكليف عليه. 
معرفة حقيقة الدنيا
رأى النبيُّ في هذه الرحلة امرأةً عجوزاً وعليها من كلّ زينة، فسأل سيدنا جبريل فقال له: هذه هي الدنيا، فالدنيا عمرها قصير لذلك فالمؤمن يضحي بعمر الدنيا المحدود لكي يفوز بالخلود في الآخرة ونعيم الدنيا على قدر إمكانيات الشخص وتصوراته، أمَّا نعيم الآخرة فعلى قدر إمكانيات الله وتصوراته.

مطابقة القول للعمل

رأى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ممَّا رأى أناساً يقصّ شفاههم وألسنتهم، فقال: من هؤلاء يا أخي يا جبريل ؟ قال : (هم خطباء الفتنة وهؤلاء الناس هم من يقولون ما لا يفعلون). وهذه آفة كلّ دعوة هؤلاء الناس يفصلون الكلمة عن السلوك، فيقولون كلاماً للنَّاس ويفعلون فعلاَ آخر، ثمَّ يبرِّرون للنَّاس تصرفاتهم، فيجعلون الإسلام مبرّراً لتصرفاتهم، بمعنى أن يفعلون الفعل ثمَّ يبحثون عن مبرّر في الإسلام عنه والإسلام نزل لكي يرتفع الناس بمستوياتهم إليه لا أن ينزل الإسلام إلى مستواهم، لذلك حينما خاطب الله أهل الكتاب قال (قل يا أهل الكتاب تعالوا ) أي: ارتفعوا إلى المستوى الأعلى لتأخذوا تعاليم الله .

التكافل

حضَّ الله على التكافل بأن أمر المؤمنين بالزكاة والصدقة، والزكاة تعبّر عن نوع من أنواع التكافل داخل المجتمع المسلم، فالغني يأخذ من ماله ويعطي الفقير فينتشله من حالة العوز والحاجة، وتسود مشاعر الرأفة والرحمة من قبل الأغنياء تجاه الفقراء ومشاعر الحب من قبل الفقراء تجاه الأغنياء على عكس ذلك نجد أنَّ التعامل بالرّبا داخل المجتمع يجعل الفقير أكثر فقراً والغني أكثر غنى،  ولذلك نهى عن الرّبا بكلّ أشكاله وأنواعه، فنجد أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم رأى أناساً يسبحون في بركة من الدّم ويلقمون الحجارة، فقال: (من هؤلاء يا أخي يا جبريل ؟). قال : ( هم آكلوا الربا).

هؤلاء الذين يستغلون حاجة المحتاج وفقر الفقير لكي يزدادوا غنى، فكأنَّ الدم الذي يسبحون فيه هو المال الذي يجنونه من دم الفقراء المعدمين، ومع ذلك لا يستفيدون منه، لأنَّ الدم لا فائدة منه خارج الجسم، أمَّا غذاؤه الحقيقي فهي الحجارة .

صيانة الأعراض

الأعراض هي المادة الشهية لكثير من خلق الله، ففي هذه الرحلة رأى النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاثة مشاهد للغيبة؛ رأى قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم، فسأل عنهم، فقيل: الذين يغتابون الناس.
ورأى قوماً يأخذون قطعاً من لحومهم فيأكلونها، ورأى أناساً يأخذون لحماً منتناً من النَّاس فيأكلونه، كلُّ هذه المشاهد عن الغيبة لتضخم هذا الجريمة، يقول الله تعالى }أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه {. (الحجرات:12).

الكلمة وأهميتها

رأى النبي جحراً صغيراً يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا جبريل ؟). قال جبريل: (هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها) .
فالكلمة في الإسلام لها أهمية كبيرة، فالإسلام يكون بكلمة لا إله إلاَّ الله محمَّد رسول الله،  والعهد كلمة والزواج كلمة والطلاق كلمة والخصام يكون بكلمة والصلح بكلمة والعتق بكلمة يقول الله تعالى: } لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما{ (النساء:114).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لا بالاً يهوي بها في جهنم)). رواه البخاري.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)). رواه البخاري.
يقول الشيخ محمَّد الغزالي -رحمه الله - : ( إنَّ اللسان حبل مرخي في يد الشيطان يصرف صاحبه كيف شاء ، فإذا لم يملك الإنسان أمره ، كان فمه مدخلا للنفايات التي تلوث قلبه وتضاعف فوقه حجب الغفلة).

الأمانة وتأديتها

في مشهد من المشاهد يرى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجلاً يحمل حملاً لا يقدر عليه، ومع ذلك يأخذ شيئاً آخر يضعه على ظهره يقول الله تعالى: }إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل{ (النساء:58)  وعن أنس رضي الله عنه قال :  ما خطبنا رسول الله إلاَّ قال :  ((لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له )). رواه أحمد .

والأمانة ليست مقصورة فقط على حفظ الودائع، ولكن للأمانة مفهوم أعم وأوسع، فحينما سقى سيدنا موسى لابنتي الرّجل الصَّالح وكان معهما عفيفاً شريفاً، قالت إحداهن لأبيها : } يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين{(القصص:26)
ومن معاني الأمانة أيضاً أن يسند العمل إلى من هم أهل الخبرة  والكفاءة، جاء رجل يسأل رسول الله : متى تقوم الساعة ؟ فقال له : ))إذا ضيّعت الأمانة فانتظر الساعة))، فقال : وكيف إضاعتها ؟ قال :  ((إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة)). رواه البخاري.
ومن معاني الأمانة أن يقوم المرء بأداء واجبه كاملاً في العمل الذي يناط به، وأن يستنفذ جهده في ذلك.

الصلاة  وأهيمتها

رأى النبيُّ عليه الصَّلاة والسّلام في رحلته أناساً يرضخون رؤوسهم بالحجارة، كلما رضخت عادة ثانية، وهؤلاء هم المتكاسلون عن الصَّلاة، وهذا المشهد يجعلنا نفكر لماذا يرضخون الرأس ؟ يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله : ( إنَّ التثاقل عن الصَّلاة عملية فكرية، بحيث إنَّ الإنسان لو ركَّز كلَّ طاقاته وكلَّ إمكانياته بحيث يؤديها، فسيؤديها مهما كانت ظروفه، ومهما كانت شواغله، ومهما كانت الموانع التي تمنعه، ولكنَّ الإنسان يحسن لنفسه ترك الصَّلاة بأسلوب يختاره هو كضيق الوقت أو الحرص على المصلحة أو عدم القدرة إلخ .. فكأن الفكرة التي توحي للإنسان أن يتكاسل عن الصَّلاة إنَّما هي فكرة تنبت في رأسه، فالرأس الذي سول للإنسان أن يكسل عن أداء الصَّلاة هو الذي يستحق هذا الجزاء، ويجب أن يرضخ بالحجارة وياليته يرضخ مرة وينتهي ويموت ولكن لا يفترعنه أي أنه يعود ثانيةـ وبعد ذلك يضرب مرة أخرى، فيظل كذلك في عذاب إلى يوم القيامة) .

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …