أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو الصَّادق المصدوق، في الحديث الصَّحيح أنَّ السَّاعة لا تقوم حتى تكون عشر آيات منها، نزول عيسى عليه السَّلام، فقال: ((إنَّ السَّاعة لا تقوم حتَّى تكون عشر آيات: الدّخان، والدَّجَّال، والدَّابة، وطلوع الشَّمس من مغربها، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، ونزول عيسى، وفتح يأجوج ومأجوج، ونار تخرج من قعر عدن تسوق النَّاس إلى المحشر تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا)). (رواه السيوطي في الجامع الصغير).
فنزول عيسى عليه السَّلام من السَّماء الدنيا إلى الأرض هو إحدى علامات السَّاعة الكبرى، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}. (الزخرف: 61)، قال المفسرون: (يعني نزول عيسى عليه السَّلام من أشراط السَّاعة يعلم به لقربها، ونزوله إلى الأرض دليل على فناء الدنيا، وإقبال الآخرة). وهو قول ابن عبَّاس، والحسن، ومجاهد، وسعيد، وقتادة، والسّدّي، والضحَّاك، وابن زيد، وغيرهم.
ولمعرفة حقيقة هذا الموضوع، نبدأ القصة من البداية ..
((يُوشك أنْ ينزلَ فيكم ابنُ مريمَ حكمًا عدلاً يكسر الصّليبَ، ويقتلُ الخنزيرَ، ويضع الجزية، ويفيضُ المالُ حتَّى لا يقبله أحدُ، ويهلك في زمانه الملل كلَّها إلاَّ الإسلام، ويقتلُ الدجَّالَ، فيمكثُ في الأرض أربعين سنة، ثمَّ يتوفَّى ويُصلِّي عليه المسلمون))
آيات ومعجزات ..
عيسى ابن مريم عليه السَّلام نبيٌّ من أنبياء الله سبحانه، ومن أولي العزم من الرّسل، بعثه الله إلى بني إسرائيل، وأعطاه كتاباً هادياً وهو الإنجيل، وأيَّده بالبيّنات والحجج والمعجزات، قال الله تعالى :{وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}. (البقرة:87). وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا، وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. (المائدة:110).
تفنيد الصّلب ..
مع كلِّ هذه الآيات البيّنات والمعجزات الواضحات، لم يكن من بني إسرائيل إلاَّ أن كذَّبوه وعصوه وآذوه بكلِّ أصناف التكذيب والعصيان والإيذاء، وأراد اليهود أن يقتلوه أو يصلبوه، لكنَّ الله حماه من كيدهم وتدبيرهم، حيث ألقى شبهه على بعض أصحابه الحاضرين عنده، ورفع عيسى عليه السَّلام إلى السَّماء، قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. (آل عمران:55). وقال الله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}. (النساء :157-158).
إيمانٌ به قبل الموت ..
أخبر المولى عزَّ وجل أنَّ أهل الكتاب سيؤمنون به بعد نزوله الأرض، وهذا من علامات السّاعة الكبرى، قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}. (النساء: 159).
جاء في تفسير ابن كثير: (الهاء في {مَوْتِهِ} كناية عن عيسى عليه السَّلام، معناه: وإنَّ من أهل الكتاب إلاَّ ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى عليه السَّلام، وذلك عند نزوله من السَّماء في آخر الزَّمان، فلا يبقى أحد إلا آمن به حتى تكون الملة واحدة، ملة الإسلام). وهو قول ابن عبَّاس والحسن ومجاهد وعكرمة. ويقدّر سيبويه المحذوف في الآية بقوله: (وإن من أهل الكتاب أحد إلاَّ ليؤمننَّ به).
وقال ابن عادل الدمشقي في تفسيره اللباب: (لما ذكر فَضَائِح اليَهُود وقبحَ أفْعَالِهِم، وأنَّهم قَصَدُوا قَتْل عِيسَى عليه الصَّلاة والسَّلام، وأنَّه لم يَحْصُل لهم ذَلِكَ المَقْصُود، وأنَّ عيسى عليه السَّلام حَصَل له أعْظَمُ المَنَاصِبِ، بَيَّن أنَّ هؤلاء اليهُود الذين بَالَغُوا في عَدَاوَتِهِ، لا يَخْرُجُ أحَدٌ مِنْهُم من الدُّنْيَا إلا بَعْدَ أن يُؤمِنَ به).
نزول عيسى ..
أوضح المفسّرون منهم قتادة وابن زيد واختاره الطبري، أنَّه عندما ينزل عيسى عليه السَّلام إلى الأرض يُؤمِنُ به كلُّ أحدٍ، حتَّى تصيرَ المِلّةُ كلُّها إسلامية، ودلَّت السنة النبوية على أعمال يقوم بها عيسى عليه السّلام بعد نزوله إلى الأرض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: ((يُوشك أنْ ينزلَ فيكم ابنُ مريمَ حكمًا عدلاً يكسر الصّليبَ، ويقتلُ الخنزيرَ، ويضع الجزية، ويفيضُ المالُ حتَّى لا يقبله أحدُ، ويهلك في زمانه الملل كلَّها إلاَّ الإسلام، ويقتلُ الدجَّالَ، فيمكثُ في الأرض أربعين سنة، ثمَّ يتوفَّى ويُصلِّي عليه المسلمون)). (أخرجه البخاري). وقال أبو هريرة: (اقرؤوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قبل موت عيسى بن مريم، ثمَّ يُعيدها أبو هريرة ثلاث مرات).
وقد خصَّ هذا الموضوع بالتأليف ثلة من العلماء، نذكر منهم:
-الإمام السيوطي المتوفى (911هـ)، في كتابه: (نزول عيسى ابن مريم آخر الزَّمان). وهو كتاب مطبوع.
-الشيخ محمد أنور شاه الكشميري الهندي المتوفى (1352هـ)، في كتابه: ( التصريح بما تواتر في نزول المسيح)، وهو كتاب مطبوع.
-الشيخ عبد الله محمَّد صديق الغماري، في كتابه: (عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السَّلام)، وهو كتاب مطبوع.