"لكي تعود خيرُ أُمَّةٍ".. هذه العبارة باتت عنوانًا ومحتوىً للعديد مِن الكتابات والمَقالات والأُطر البحثيَّة ما فتئَتْ تظهر بين حينٍ وآخر، ومُنذ القرن التَّاسع عشر للميلاد، من جانب العديد من المُفكِّرين، الذين غلب عليهم إمَّا الطَّابعُ الإسلاميُّ أو الطَّابع القوميُّ، في محاولةٍ للإجابة على العديد مِن الأسئلة الموصولة بمشكلة حالة التَّخلَّفُ والتَّردي الحضاريِّ التي دَخَلَتْ فيها الأُمَّة مُنذ أواخر القرن الثَّامن عشر الميلاديِّ بعد تطبيق عوامل وقوانين العُمران البشريِّ عليها، وسُنَنُ الخَلْقِ الإلهيِّ فيما يخص نمو ودوال الكيانات السِّياسيَّة والبشريَّة وفق النَّاموس الإلهيِّ الخالد ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [سورة آل عمران- مِن الآية 140].
وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّه عندما طرح مُفكِّرو القرن التَّاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ومن بينهم الإمام مُحَمَّد عبده، والمُفكِّر العامِل جمال الدِّين الأفغاني، ومحمد رشيد رضا، وغيرهم من الثَّائرين على الأوضاع التي كانت تسود الأُمَّة في حينه، رؤاهم حول الأزمة الحضاريَّة التي بدأت تتعرَّض لها الأُمَّة المسلمة، ومظاهرها في مُختلف المستويات؛ لم يدُر ببالِ أحدهم أبدًا أنَّ هذه الأوضاع سوف تستمر في تدهورها حتى تصل إلى مستواها الرَّاهن غير المسبوق.
فالأُمَّة الآن تعيش واحدةً مِن أسوأ لحظات تاريخها على المستوى الحضاريِّ الشَّامل، فهي، ومُنذُ ما يَقربُ مِن تسعة عقودٍ تعيشُ من دون مِظلَّة دولة الخلافة الأكبر، وتحديدًا مُنذ سقوط دولة الخلافة العثمانيَّة رسميًّا في العام 1924م، وحتى عندما انقسمَتْ دولة الخلافة الإسلاميَّة إلى دولٍ قوميَّةٍ مُتعدِّدةٍ لم تظهر علامات الفُتوَّة الحضاريَّة على أيٍّ منها، وعانت من العديد من علامات الضَّعف والتَّخلُّف على مستوى مُختَلف عناصر القوَّة الشَّاملة للدَّولة بمفهومها الحديث، وخصوصًا في المجالات العسكريَّة والعلميَّة والاقتصاديَّة.
وتتنوَّع مَظاهر هذا التَّخلُّف، فعلى المستوى الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ، تُعتَبَرُ بلدان العالم العربيِّ والإسلاميِّ، باستثناءاتٍ مُحدَّدةٍ هي الأكثر فقرًا وتخلُّفًا في العالم بعد بلدان أفريقيا السَّوداء جنوب الصَّحراء؛ حيث تنتشر ظواهر مثل البَطالة والعنوسة والفقر في أوساط الشَّباب والمًُجتمعات بشكلٍ عامٍّ بأرقامٍ مُخيفةٍ، تصل إلى مستويات ما بين 50% إلى 80% في بعض الدِّول والمجتمعات.
ولا يختلف الوضع على المستوى الثَّقافيِّ والحضاريِّ؛ حيث بلدان العالم العربيِّ والإسلاميِّ هي من أقلِّ البلدان مشاركةً في حركة النَّشر والاختراع والإبداع العالميِّ، ولعلَّ في مسألة خروج الجامعات العربيَّة من تصنيف أفضل 500 جامعة على مستوى العالم دلالةٌ مهمةٌ في هذا المُقام، بالرَّغم من أنَّ هذه الأُمَّة هي التي قادت العالم إلى نور العلم والحضارة لقرونٍ طويلةٍ.
عسكريًّا كان آخر انتصارٍ حققه العرب والمسلمون على الأمم الأخرى العدوَّة لهم في حرب رمضان/ أكتوبر 1973م، وكان وقتها استثناءٌ؛ حيث هُزِمَ العرب والمسلمون في مُختلف المعارك التي خاضوها، ومن وقتها، ومن قبلها والعرب والمسلمون ينهزمون في مُختلف الحروب التي خاضوها؛ فالعرب هزموا في حروبهم أمام إسرائيل باستثناء انتصار رمضان، وكذلك باكستان أمام الهند، وفي آخر حربٍ بينهما، في مطلع السَّبعينيَّات الماضية، استطاعت الهند فصل باكستان الشَّرقيَّة "بنجلاديش" عن باكستان الأم.
والانتصار الوحيد الذي حقَّقه العرب في حربٍ ضروسٍ في العقود الأخيرة باستثناء حرب رمضان، كان ضد طرفٍ مسلمٍ، وهو إيران في حرب الخليج الأولى في الثَّمانينيَّات الماضية، وهي لفتةٌ مُهِمَّةٌ؛ حيث وصل تخلُّف الأُمَّة إلى درجة التَّناحُر الدَّاخليِّ، وتَرْكُ المهام الجِسام التي من المفترض عليها أنْ تقوم بها باعتبارها الأُمَّة المختارة أو المصطفاة مِن اللهِ تعالى لكي تكون خيرَ أُمَّةٍ أخرجت للنَّاس، ومِن بين ذلك هداية العالم إلى نور الإسلام والحضارة كما كانت تفعل قديمًا.
على المستوى السِّياسيِّ أيضًا، لا تزال الأُمَّة تُعاني مِن ظواهِر نبذها العالم مُنذُ زمنٍ طويلٍ، ختى في بعض بلدان أفريقيا السَّوداء التي تُعتبر نموذجًا للتَّخلُّف، مثل الانقلابات العسكريَّة ونزوير الانتخابات والحُكْمُ الدِّيكتاتوريِّ.
والَّلافت للنَّظر أيضًا في هذا المُقام؛ هو أنَّه من بين هذه الأُمَمِ بلدانٌ وكياناتٌ بدأت نهضتها في ذات المرحلة تقريبًا مع بلدان العالم العربيِّ والإسلاميِّ، بعد حركة التَّحرُّر التي بدأت بعد الحرب العالميَّة الثَّانية وحتى السِّتينيَّات الماضية، مثل الهند وكوريا الجنوبيَّة والبرازيل، وبعضها كان يأتي خبراؤه إلى العالم العربيِّ، وخصوصًا مصر للأخذ عنها في مجالات التَّصنيع والإدارة.
بل إنَّ اليابان في بداية نهضتها في القرن التَّاسع عشر أرسلَتْ وفودًا إلى مصر إبَّان عهد الخديوِ إسماعيل، للأخذ عنها في مجالاتٍ عدَّة، وخصوصًا الإدارة، وبعد حوالي أربعة أو خمسة عقودٍ مِن ذلك، باتت الفجوة بين هذه البلدان وبين بلدان أُمَّتنا أكبر مِن أنْ تُرى بالعَين المُجرَّدة مثل الأخدود الأفريقيِّ العظيم!!
ولعلَّ من أبرز مظاهر التَّخلُّف الحضاريُّ الأخرى التي تُعاني منها الأُمَّة هو هزيمتها أمام دولةٍ أو كيانٍ هشٍّ وضعيفٍ مثل إسرائيل حتى الآن، كذلك فمِنْ بين الدِّول العشرة الأكثر فشلاً في العالم على مقياس الـ"فورين أفيرز" هناك دائما ما بين أربعةٍ إلى ستةِ دِوَلٍ عربيَّةٍ وإسلاميَّةٍ، وكذلك من بين الدِّول الأكثر فسادًا على مقياس مُنظَّمة الشَّفافية العالميَّة؛ هناك دائمًا على الأقل أربع دولٍ عربيَّةٍ وإسلاميَّةٍ.
أيضًا، لعبت العديد مِن العوامِل أدوارها في تحقيق هذه الصُّورة، ومن بينها الاستعمار الذي كان سببًا ونتيجةً في ذات الوقت في هذه الحالة؛ حيث هو في الأساس نتاجٌ لتخلُّف الأُمَّة حضاريًّا، وخصوصًا على المستويَيْن السِّياسيِّ والعسكريِّ؛ حيث أدَّت هذه الحالة مِن التَّخلُّف إلى تسهيل مُهمَّة القوى الاستعماريَّة في التَّغلغُل السِّياسيِّ والاقتصاديِّ أوَّلاً، ثُمَّ على مستوى الاحتلال العسكريِّ المباشر بعد ذلك.
ثُمَّ أدَّى قرنَيْن من الاستعمار بعد ذلك إلى تكريس هذه الحالة من التَّخلُّف والتَّردِّي الحضاريِّ؛ حيث كان مِن مصلحة الاستعمار الذي بدأ هولنديًّا وإسبانيًّا وبرتغاليًّا، وانتهى فرنسيًّا وبريطانيًّا، أنْ تستمرَّ هذه الحالة مِن التَّخلُّف الحضاريِّ الشَّامل؛ لإمكان إحكام السَّيطرة على مُقدرات الأُمَّة وثرواتها، وخصوصًا مصادر الطَّاقة، وبما في ذلك موقعها الجيو- سياسيٍّ الشَّديد الأهمِّيَّة لخطوط التِّجارة والمواصلات العالميَّة.
ولقد استمرَّت هذه الأوضاع حتى بعد خروج قوى الاستعمار التَّقليديَّة من بين ظهرانيِّ العالم الإسلاميِّ، وهو الإقليم الوحيد في العالم الذي ظلَّ يعرف هذه المُشكلة، وإنْ تبدَّلت المُسمَّيات قليلاً، فقديمًا كان الاستعمار "يستعمر" لفتح أسواقٍ جديدةٍ والحصول على الموارد الخام ونشر الدِّيانة المسيحيَّة والتَّخلُّص من بعض المُشكلات السِّياسيَّة والاجتماعيَّة التي كانت موجودةً في أوروبا في ذلك الوقت، وكانت تُهدِّد عروش الأسر الكبيرة الحاكمة فيها، مثل اضطرابات قنِّ الأرض، وثورات الرَّعاع والفقراء.
أمَّا الآن فبدلاً من بريطانيا العظمى جاءت الإمبراطوريَّة الأمريكيَّة، وأصبح الاستعمار يأتي تحت شعارات حقوق الإنسان وتحرير الدول العربيَّة والمسلمة من سلطان التَّخلُّف، وهو ما كانت بريطانيا وفرنسا أيضًا تردده عندما كانت تستعبد الأفارقة تحت شعار "عبء الرَّجل الأبيض" في إنقاذ العالم من التَّخلُّف!
وثمَّة هدفٍ آخر للاستعمار في هذا المُقام؛ وهو إضعاف الإسلام ذاته؛ حيث إنَّ الغرب لم ينسَ أنَّ العرب في غضون عقودٍ قليلةٍ بعد ظهور الإسلام بين ظهرانيهم، استطاعت جيوشهم قليلة العدد إدالة الإمبراطوريَّات الكبرى في العالم في ذلك الوقت، وهي الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة والفارسيَّة، ونشر الإسلام في كلِّ مكانٍ من العالم القديم، وإقامة دولةٍ قويَّةٍ مُتقدِّمةٍ مرهوبة الجانب قادت العالم إلى نور العِلم والحضارة، وسيطر الإسلام ودولته، على اختلاف مُسمَّياتها، على العالم لأكثر من ألفِ ومائة عامٍ تقريبًا، وهو ما يعني إضافة البُعد الحضاريِّ لهذه الظَّاهِرة الاستعماريَّة.
سؤال النَّهضة
طَرَحَتْ هذه الأوضاع والأحوال الرَّاهنة التي تُعاني منها الأُمَّة سؤالاً شديد الأهمِّيَّة؛ وهو سؤال النَّهضة.. كيف تواجه الأُمَّة حالةَ التَّردِّي الحضاريِّ الشَّامل هذه، وتنهضُ مِن جديدٍ، وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ هذا السُّؤال مِن الأهمِّيَّة بمكانٍ في وقتنا الرَّاهن بحيث يُمكنُ القَول إنَّ سؤال المرحلة، ويتعلَّق بمصير الأُمَّة كلِّها، ووضعها في سُلَّم الأمم والحضارات الإنسانيَّة في وقتنا الرَّاهن، ولوقتٍ طويلٍ قادمٍ.
ولكن، في حقيقة الأمر؛ فإنَّه لا يُمكننا أنْ نضع إجاباتٍ وافيةً على هذا السُّؤال من ِدونِ دراسةٍ دقيقةٍ ووافيةٍ لطبيعة مظاهر المُشكلة التي نحن بصددها، ولذلك لمعرفة أسبابها وكيفيَّة مُعالجتها على مُختلف المستويات، وماهيَّة الأدوات الأكثر تاثيرًا في مُعالجة هذه الحالة، أو الأكثر قدرةً على تحسين أوضاع الأُمَّة سواءٍ على المُستوى العام أو على المُستوى القُطريِّ الخاصِّ لبلدانها.
وفي البحث العلميِّ؛ فإنَّ هناك مبدأ ضمن خطوات البحث المعروفة، تقول بأنَّ توصيف المشكلة وتحديدها هو أهمُّ خطوةٍ على طريق علاجها؛ فلا يُمكنُنا أنْ نحدِّدَ استراتيجيَّةً واضحة المعالم للنَّهضة الحضاريَّة للأُمَّة المسلمة، من دون معرفة حقيقة مُشكلات التُّخلُّف السِّياسيِّ والاقتصاديِّ والاجتماعيِّ والحضاريِّ العامِّ الذي تواجهه، ولا يمكن أيضًا رسم معالم هذه الاستراتيجيَّة مِن دون النَّظر إلى الأسباب التي أدَّتْ إلى هذه الحالة، وكذلك جذورها التَّاريخيَّة.
وعند طرح سؤال النَّهضة أيضًا يتبادر إلى الذِّهنِ الكثير من الأسئلة الأخرى المرتبطة، ولعلَّ أهمُّها هو كيفيَّة تفعيل دَور القوَّة الأهم التي تملكها الأُمَّة، وهي ثروتها البشريَّة من الشَّباب الذين يُشكِّلون أكثر مِن ثُلُثِ الأُمَّة، أي حوالي 350 مليون شابٍّ يزيدون في تعدادهم عن تعداد سُكَّان الولايات المتحدة ذاتها بشيوخها وأطفالها.
ففي حقيقة الأمر؛ فإنَّ مفتاح علاج مُشكلة الأُمَّة الحضاريَّة والنهوض بها من خِلال مشروعٍ نهضويٍّ شاملٍ يكمن بالأساس في استغلال قدراتها وثرواتها وطاقاتها غير المحدود لإعادة بنائها، وإذا ما تكلَّمنا عن البِناء والتَّنمية؛ فإنَّنا نعني بالأساس ثروات الأُمَّة وطاقاتها البشريَّة؛ حيث إنَّ جميع الثَّروات الأخرى لا يُمكن استغلالها من دون فعلٍ بشريٍّ يقوم على حمايتها وتطويرها واستغلالها، والشَّباب هي المرحلة التي يكون فيها الإنسان في أقصى قدرةٍ ممكنةٍ على الفِعْلِ والحركة، على المستويَيْن الجثمانيِّ العضليِّ والعقليِّ الذِّهنيِّ.
ولهذا جانبٌ شرعيٌّ أكيدٌ، فالدُّنيا خُلِقَتْ للإنسان، وكلُّ ما فيها مُسخَّرٌ له ولخدمته، والإنسان هو أهمُّ ما فيها، فهو المُستخلَفُ من قِبَلِ اللهِ تعالى في الأرض، وهو القائم على أماناتِ اللهِ وشريعته، وهو الذي خلقه اللهُ تعالى لعبادته، ولذلك فالدُّنيا فُطِرَتْ على ذلك أيضًا؛ فأيُّ خططٍ للتنمية وللنَّهضة الحضاريَّة لا تراعي الإنسان ولا تستخدمه فيها؛ لا تكون ولا تنجح.
ولذلك، فإنَّه لا يُمكن الحديث عن أيِّ شكلٍ من أشكال النَّهضة على مستوى الأُمَّة لو استمرَّتْ أوضاع شبابها على هذا النَّسق مِن المشكلات ما بين الفقر والبطالة أو فقدان الهويَّة وغياب القُدوة الحَسَنة والفراغ الذي يُهْدِرُ الطَّاقات.
وفي الأخير، يقول العلامة الدُّكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتِّحاد العالميِّ لعلماء المسلمين حول قضيَّة تخلُّف الأُمَّة: "الأُمَّة صحيحُ أنَّها مُتخلِّفةٌ، إنَّما هل هذا التَّخلُّف أبديٌّ؛ أم هو مرحلةٌ مِن المراحل؟، هل نحن مُتخلِّفون لأنَّنا يجب أنْ نكونَ مُتخلِّفين؟".. هذه الأسئلة لعلَّها هي الأهمُّ التي يجب على الأُمَّة وشبابها الإجابة عليها في هذه المرحلة؛ وإلا لن يكون للأُمَّة مرحلةٌ مقبلةٌ نتكلَّم فيها عن هذه القضايا!!