ناهيك عن الاستعمار الحديث في القرن التَّاسع عشر، فالحرب بين الإسلام والغرب المسيحيِّ اليهوديِّ لم تتوقَّف أبدًا مُنذ مطلع الدَّعوة الإسلاميَّة وحتَّى عصرنا الحاضر، وما تزال هجماتهم باديةً للعَيان هنا وهناك، لتكون شوكة دامية في قلب العالم الإسلامي.
وفي حقيقة الأمر، فإنَّ هذه الكلمات التي اخترناها من دراسةٍ للمفكر ناصر المُحَمَّد الأحمد، صحيحةٌ مِن النَّاحية العلميَّة التَّاريخيَّة إلى درجةٍ كبيرةٍ، وتُلخِّص حقيقة الأوضاع الرَّاهنة التي تعيشها الأُمَّة؛ حيث الدَّور الأساس الذي يلعبه الاستعمار مُنذ أكثر من تسعمائة عامٍ في محاولة إزالة مفهوم الأُمَّة الإسلاميَّة، أو على الأقل تعطيل مسيرتها الحضاريَّة.
فغزوة مُؤتة كانت مثالاً للصِّراع المُبكِّر بين المسلمين وبين أوروبا المسيحيَّة، وكانت بالفعل حملةً صليبيَّةً مُبكِّرَةً؛ حيث زَحَفَتْ جيوش الرُّوم مع حلفائهم من العرب الغساسنة المسيحيِّين في العام الثَّامن للهجرة النَّبويَّة نحو الجزيرة العربية، وكان شعارهم أيضًا هو الصَّليب؛ ثُمَّ تَلَتْ ذلك العديد من المعارك التَّاريخيَّة بين الطَّرفَيْن، مثل معركة اليرموك، والتي انتهت بفتح فلسطين وبلاد الشَّام ومصر، بعد تضحياتٍ جمَّةٍ لجيل الصَّحابة الأوَّل.
المُواجهة التَّالية بين المسلمين وأوروبا المسيحيَّة كانت بعد ذلك ببضعة مئاتٍ من السِّنين، وكانت خلال معركة ملاذكرد التي وقعت وقعت بين السَّلاجقة الأتراك بقيادة السُّلطان ألب أرسلان والبيزنطيِّين بقيادة الإمبراطور رومانوس ديوجينس، في السَّادس والعشرين من أغسطس من العام 1071م/ ذي القعدة 463هـ، وانتصر فيها السَّلاجقة، وأسروا الإمبراطور البيزنطيَّ، وشكَّلَتْ هذه المعركة بداية نهاية الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة.
وفي هذه المعركة أيضًا كانت جيوش الروم ترفع "الصَّليب" رمزًا لـ"حربهم المُقدَّسة"!
وبعد ملاذكرد؛ بدأت أوروبا تطلب النَّجدة من بابا روما ضد السَّلاجقة المُسلمين، وكانت هذه هي نقطة البداية من وجهة نظر الكثير للحملات الصَّليبيَّة المعروفة، والتي بدأت في القرن الحادي عشر وانتهت في القرن الثالث عشر الميلاديِّ، وشاركت فيها مُختلف دول وممالك أوروبا بالمال والسِّلاح والمقاتلين، وارتكبَتْ أفظع الجرائم في خلال مسيرتها "المُقدَّسة" نحو فلسطين.
ولكن بالرَّغم ممَّا نتجَ عن الحروب الصَّليبيَّة طيلة قرنَيْن مِن الزَّمان من مذابح وانتهاكاتٍ واحتلالٍ؛ إلا أنَّه كان لها صدىً كبيرٌ على المستوى الحضاريِّ بالنِّسبة للأُمَّة؛ حيث أعادت على الأقل صوت الوحدة إلى بلاد المسلمين، ونبَّهتهم إلى أنَّهم ما لم يخرجوا من حالة التَّشرذُم والصِّراعات الدَّاخليَّة التي هم عليها؛ فإنَّهم سوف يفنى وجودهم ذاته، وهو ما أدَّى، وفق قوانين العمران البشريِّ المعروفة إلى ظهور تجربة البيت الأيوبيِّ، وخصوصًا نور الدِّين محمود وعماد الدِّين زنكي وصلاح الدِّين الأيوبيِّ، السِّياسيَّة والعسكريَّة.
وكانت عوامل النَّصر التي تبنَّاها هؤلاء، وانتهت بهزيمة الصَّليبيِّين وطردهم من ديار الإسلام، تتمحور في الآتي:
- القيادة الإسلاميَّة الصَّادقة.
- الالتزام بأحكام الإسلام وبتطبيقها.
- البناءُ الإيمانيُّ والتَّربويُّ والثَّقافيُّ للمسلمين.
- الإعمارُ والبناءُ الحضاريُّ والاجتماعيُّ.
- البناءُ الاقتصاديُّ.
- البناءُ الجهاديُّ والعسكريُّ.
كما ركَّز هؤلاء على اتِّجاهَيْن رئيسين في مُواجهة الصَّليبيِّين، وساروا في تحقيقهما في خطوطٍ مُتوازيةٍ؛ الأوَّل : هو جهود تحقيق الوحدة الإسلاميَّة، والثَّاني: هو إنهاك الصليبيِّين الموجودين بين ظهرانيِّي المُسلمين.
بعد الحملات الصَّليبيَّة التي انتهى وجودها تمامًا على يد دولة المماليك في مصر في مُنتصف القرن الثَّالث عشر الميلاديِّ؛ حيث استطاع السُّلطان الأشرف صلاحُ الدِّين خليل ابن السُّلطان المنصور سيف الدِّين مُحَمَّدٍ بن قلاوون، تحرير عكَّا وصيدا وصور وحيفا وعتليت على سواحل بلاد الشَّام في فلسطين ولبنان، منهيًا الوجود الصَّليبي في المشرق الإسلاميِّ في العام 1291م؛ جاءت المرحلة الرَّابعة من المُواجهات الحضاريَّة بين المسلمين، وهي التي جَرَتْ في الأندلس، وانتهت بنتيجةٍ سلبيَّةٍ بخلاف المَحطَّات السَّابقة.
فضمن الصِّراع بين العالم الإسلاميِّ وبين أوروبا المسيحيَّة الدولة؛ بدأت ممالك ليون وقشتالة في فرنسا خلف جبال البرانس التي عجز المسلمون في الأندلس عن اختراقها بعد أنْ وصلوا إلى أقصى توسُّعٍ لهم في جنوب أوروبا على ساحل البحر المتوسِّط، في محاربة المسلمين؛ حتى استطاعوا استغلال لحظة ضعفٍ تاريخيَّةٍ لدى بني الأحمر الذين كانوا يحكمون آخر ممالك المسلمين في الأندلس، وهي مملكة غرناطة، في طرد العرب والمسلمين من أوروبا الجنوبيَّة عام 1495م.
ولكن في المقابل، كانت جيوش السُّلطان محمَّد الفاتح قد أسقطت القُسطنطينيَّة في يد المسلمين في العام 1453م، ويصل مُحَمَّد الفاتح إلى أوروبا من جهة الشرق والبلقان؛ ليفتح المسلمون رومانيا وبلغاريا والمجر وممكلة الصِّرب في البلقان، ويصل الفاتح بجيوشه إلى تخوم النِّمسا نفسها في قلب أوروبا، لتُعلَنَ الحرب سجالاً بين العالم الإسلاميِّ وبين أوروبا المسيحيَّة الدولة
ويعدُّ الكثير من المُؤرِّخين أنَّ هزيمة الأتراك لأوروبا المسيحيَّة في القرون من الرَّابع عشر وحتى السَّادس عشر الميلاديَّيْن، وخصوصًا في كوسوفا في العام 1389م، وفي القُسطنطينيَّة عام 1453م، هي بداية التَّخطيط لموجات الاستعمار الحديث التي وَفَدَتْ إلى العالم العربيِّ والإسلاميِّ في القرن التَّاسع عشر، من أجل الإجهاز على الخلافة العثمانيَّة واقتسام تركتها.
وهنا تحضرنا مقولةٌ للسُّلطان العثمانيِّ عبد الحميد الثَّاني قالها في الهزيع الأخير مِن تاريخ دولة الخلافة قال فيها: "للصَّليب أنْ يتَّحِدَ في كلِّ وقتٍ، لكن الهلال يبقى دائمًا بمفرده".
وكان ليهود الدونمة ومسيحيي البلقان واليونان دورًا كبيرًا في إسقاط الخلافة العثمانيَّة، وهو ما يؤكِّد صحَّة هذه المقولة؛ فبريطانيا بروتوستانتية وفرنسا كاثوليكيَّة والصرب واليونان أرثوذكس واليهود يهودٌ؛ وخاض الجميع في أوروبا معًا في القرون الوسطى صراعاتٍ دمويَّةً، ولكنَّهم توحَّدوا ضد الأُمَّة الإسلاميَّة ممثلةٍ في دولة الخلافة.
ثُمَّ نأتي على المرحلة الخامسة مِن المُواجهات الحضاريَّة بين الأُمَّة الإسلاميَّة وبين الغرب- وليس أوروبا الآن بعد ظهور الولايات المتحدة- المسيحيِّ، وهي مرحلةُ المشروع الصُّهيونيِّ؛ حيث تدافعت مختلف القوى الغربيَّة لدعم وجود الكيان الصُّهيونيِّ في قلب الأُمَّة المسلمة لتحقيق أكثر من غرضٍ، من بينها شقُّ صفِّ الأُمَّة، وتسهيل المرحلة السَّادسة مِن مراحل هذه المواجهات؛ وهي مرحلة السَّيطرة السِّياسيَّة والاقتصاديَة والتي تنفرد بها تقريبًا الولايات المتحدة، مع بعض الفتات لبريطانيا وفرنسا وقوى الغرب الأخرى.
ولقد احتضنت بريطانيا والولايات المتحدة الحركة الصُّهيونيَّة منذ منتصف القرن التَّاسع عشر، ومن قبل سعى نابُليون بونابرت مبكرًا في مشروع دولةٍ قوميَّةٍ لليهود في فلسطين خلال حملته على مصر والشَّام في أواخر القرن الثَّامن عشر ومطلع القرن التَّاسع عشر، وانتهت هذه الجهود التي دامت نحو قرنٍ من الزَّمان بسيطرة اليهود على فلسطين، والتي في كثيرٍ من جوانبها كانت ذات أبعادٍ دينيَّةٍ.
ففي اعتقاد المسيحيِّين، وخصوصًا الإنجيليُون التَّوراتيُّون منهم أنَّ أرض فلسطين هي أرض الميعاد، وسوف تكون عليها المعركة الكبرى الفاصلة مع المسلمين، وأنَّها سوف تكونَ معركةً نوويَّةً تكون نهايتها دمار العالم وانهيار حضارته، ويعتقدون أنَّ نهايةَ المعركة سوف تكونَ بنزول السَّيِّد المسيح إلى الأرض، وانتصار المسيحيِّين وتدمير المسلمين، ولكن ذلك لن يتمَّ من دون تجميع اليهود في فلسطين.
وهو الاعتقاد ذاته الموجود لدينا كمسلمين، ولكن باستثناء أنَّ المسيحيِّين واليهود وفق معتقدنا الإسلاميِّ الصَّحيح سيكونون من جنود المسيخ الدَّجال، وسوف يقتلهم المسلمون بقيادة نبيِّ اللهِ عيسى "عليه السَّلام".
وتأكيدًا لهذه الأفكار؛ ففي المحطة السَّابعة الحالية مِن محطَّات الصِّراع بين المسلمين والغرب المسيحيِّ الذي صار غربًا مسيحيًّا يهوديًّا مُنذ القرن التَّاسع عشر؛ فكما كان الصليب دائمًا مُنذ مؤتة وحتى العصر الحديث، كما أكَّد الرئيس الأمريكيُّ جورج بوش الابن في بداية صراع الحضارات الجديد انطلاقًا من أفغانستان والعراق؛ فإنَّ الصَّليب كان موجودًا أيضًا في حرب البوسنة التي سقط فيها ما بين 200 إلى 300 ألف مسلمٍ، وحوالي 50 ألف حالة اغتصابٍ ومليوني ونصف المليون لاجئ.
فهناك تصريحٌ لوزيرٍ صربيٍّ في بداية حرب البوسنة يقول فيه: "نحن طلائع الحروب الصليبية الجديدة"، وخلال الأزمة أيضًا قال الرئيس الفرنسيُّ وقتئذٍ "فرانسوا ميتران" خلال زيارةٍ له لمطار سراييفو خلال حرب البوسنة: "لن أسمح بقيام دولةٍ أصوليَّةٍ إسلاميَّةٍ في أوروبا"، كذلك أكَّد رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الحين جون ميجور؛ حيث قال: "إنَّ الهدفَ النَّهائيَّ لنا هو تقسيم البوسنة ومنع قيام دولةٍ إسلاميَّةٍ في أوروبا، وهو الأمر الذي لا يُمكن أنْ نسمحَ به أبدًا".
وهو المنطق ذاته الذي ترفض به ألمانيا وفرنسا انضمام تركيا إلى الاتِّحاد الأوروبيِّ؛ حيث هو- الاتِّحاد الأوروبيُّ- بحسب وصف المستشار الألمانيِّ الأسبق هيلموت كول "نادٍ مسيحيٍّ"!!
محطات من الحروب الصَّليبيَّة ضد أمتنا
شاهد أيضاً
إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟
الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …