عبادة الصِّيام في الشَّرائع السَّماوية

الرئيسية » بصائر التوحيد » عبادة الصِّيام في الشَّرائع السَّماوية
alt

تتفق جميع الشرائع السَّماوية على توحيد الله سبحانه وتعالى، وأنَّه فردٌ صمدٌ، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، لكنَّها تختلف في بعض تفاصيل العبادات والتشريعات والمعاملات، ولا تلزم المشابهة في كل الأوامر والنواهي. قال تعالى { ولأحلِّ لكم بعض الذي حرِّم عليكم} . ذلك أنَّ جميعها تمثّل ديناً واحداً هو الإسلام، قال الله تعالى:{ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ}. (آل عمران:19)، فالدِّين المرضي الصَّحيح هو  شهادة أن لا إله إلاَّ الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله ودلَّ عليه أولياءه، ولا يقبل غيره، ولا يجزي إلاَّ به.

وممَّا اتفقت عليه الشرائع السَّماوية كافة عبادة الصِّيام التي فرضها الله سبحانه على جميع خلقه من الأمم السَّابقة إلى أمَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. (البقرة:183).
فقوله تعالى:{كُتِبَ} أي: فَرَضَ وأوجَبَ، وفعل (كَتَبَ) في القرآن الكريم كلّه بمعنى فرض وأوجب، فمعنى قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (البقرة:178)، أي: فرض عليكم القصاص، ومعنى قوله تعالى:{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}. (البقرة:180)، أي: فرض عليكم.

والصِّيام : مصدرُ صام يصوم صوماً، وهو في اللغة : الإِمساكُ عن الشيء مطلقاً، ومنه : صامَتِ الرِّيحُ : أمسكَتْ عن الهبوبِ، والفرسُ : أَمْسَكَتْ عن العَدْوِ. قال تعالى : {إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحمن صَوْماً} (مريم : 26). أي: سكوتاً. والصِّيام في الاصطلاح الشَّرعي، كما يقول الإمام ابن كثير في تفسيره: (الإمساك عن الطعام والشراب والوِقَاع بنية خالصة لله عزَّ وجل، لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرَّديئة والأخلاق الرَّذيلة).
وقوله تعالى:{الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. قال الحسن وجماعة من العلماء : أراد بالّذين من قبلنا : النّصارى شبّه صيامنا بصيامهم لاتفاقهم بالوقت والقدر.
لقد كُتب الصِّيام على كلِّ أمة قد خلت كما كتب علينا شهرًا كاملاً وأياماً معدودات.
فالصِّيام فريضة ربانيَّة أوجبها الله سبحانه على عباده  في كلِّ زمان ومكان، من لدن نوح عليه السَّلام إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد عليه الصَّلاة والسَّلام،حيث كان المسلمون في ابتداء الإسلام يصومون من كلِّ شهر ثلاثة أيام، ثمَّ نسخ ذلك بصوم شهر رمضان، وقد رُوي عن معاذ، وابن مسعود، وابن عبَّاس، وعطاء، وقتادة أنَّ الصِّيام كان أولاً كما كان عليه الأمم قبلنا، من كلِّ شهر ثلاثة أيام.  قال الضحَّاك بن مزاحم: (لم يزل هذا مشروعًا من زمان نوح إلى أن نَسَخ الله ذلك بصيام شهر رمضان).

وقال عباد بن منصور، عن الحسن البصري: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}. فقال: نعم، والله لقد كُتب الصِّيام على كلِّ أمة قد خلت كما كتب علينا شهرًا كاملاً وأياماً معدودات.

فنبيُّ الله إبراهيم عليه السَّلام كان يصوم ثلاثة أيام من كلِّ شهر، وداود عليه السَّلام كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ووصف صومه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّه أعدل الصِّيام ولا أفضل منه، وشريعة موسى عليه السَّلام كانت قد أمرت بصوم ثلاثة أيام في السنة، وفرض الله سبحانه على النّصارى صيام شهر رمضان، فاشتد ذلك عليهم؛ لأنّه ربّما كان في الحرِّ الشَّديد والبرد الشديد، فكان يضرّ بهم في أسفارهم ومعايشهم، واجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السّنة بين الشّتاء والصّيف فجعلوه في الرّبيع. وممّا يروى في كتب التفسير : (أنَّهم زادوا فيه عشرة أيّام كفّارة لما صنعوا فصار أربعين، ثمَّ إنّ ملكاً لهم اشتكى فمرض فجعل الله عليه إن هو شفي من وجعه أن يزيد في صومه أسبوعاً فبرأ، فزاد فيه أسبوعاً ثمّ مات ذلك الملك، ووليهم ملك آخر، فقال: أتموا خمسين يوماً فأتمّوه خمسين يوماً).

وقد ورد في صحيح مسلم وغيره عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: ((فَصْلُ ما بين صيامِنا وصيامِ أهل الكتاب: أكلَةُ السَّحَرِ)). قال النووي: معناه: (والمميّز بين صيامنا وصيامهم السّحور، فإنهم لا يتسحرون ونحن يستحب لنا السّحور).
قال العلماء : (والقصد بهذا الحديث الحث على السّحور والإعلام بأنَّ هذا من الدِّين، وذلك لأنَّ الله أباح لنا إلى الفجر ما حرَّم عليهم من نحو أكل وجماع بعد النوم، فمخالفتنا إيَّاهم تقع موقع الشكر لتلك النعمة التي خصصنا بها).
وقد كان الأكل في ليالي الصَّوم مباحاً لأهل الكتاب ما لم يناموا، فإذا ناموا حرّم عليهم، وكذلك كان في أول الإسلام حتَّى نزل قوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض} (البقرة: 187).

ويبقى الصِّيام في الشَّريعة الإسلامية الخاتمة هو الصِّيام الأكمل والأتم، وكما يتفاوت الصَّائمون في درجات ومراتب صيامهم،  يأتي صيام أمَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم في أعلى المراتب وأفضلها، ذلك أنَّ المولى سبحانه وتعالى قد أكمل الدِّين وأتمَّه برسالة الإسلام، فقال :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. (المائدة: 3).

اللّهم بلّغنا رمضان، واجعلنا من الذين يؤدّون فريضة الصِّيام كما أمر الله سبحانه وبيّنه رسوله صلَّى الله عليه وسلّم، وأعنا في هذا الشهر على الصِّيام والقيام وغضِّ البصر وحفظ اللّسان. اللهم آمين.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

أسوأ رمضان يمر على الأمة أم أسوأ أمة تمر على رمضان؟!

كلمة قالها أحد مسؤولي العمل الحكومي في قطاع غزة، في تقريره اليومي عن المأساة الإنسانية …