عاشت الأمة الإسلامية أحوال ضعف عديدة قيض الله فيها قادة ربانيين بزغوا من وسط الظلام الدامس كنور الفجر الخافت الذي يزداد شيئا فشيئا، حتى يذهب الله به ظلام الضعف والتشرذم والتفكك.
وهكذا كان القائد العظيم عماد الدين زنكي الذي رأى مع كل الضعف الذي يعتري المسلمين نورا في آخر نفق الدويلات المتطاحنة فبدأ المسير نحوه، فعاجلته المنية قبل تحقيق حلمه، ولكنه ورّث عزما وعلما لابنه نور الدين زنكي، هذا الاسم اللامع في التاريخ الإسلامي، وقد مشى نور الدين على درب أبيه بخطوات واثقة، يعرف هدفه ويراه واضحا أمامه، تحرير الأقصى وتوحيد المسلمين، ولكنه أيضا لم يصل إلى غايته، فقد كان الهدف كبيرا يحتاج الكثير من الوقت، فمن الله على الأمة بصلاح الدين الأيوبي، الذي أكمل المسير ورأى الهدف واضحا جليا، ومن الله عليه فنصره وحقق أمانيه.
بداية القصة ..
بعد وفاة القائد المسلم نور الدين زنكي، بدأت دولته بالتفكك، فبادر صلاح الدين الأيوبي حاكم مصر بتعيين نفسه أميراً على الشام، وذهب إليها بخيرة فرسانه، حتَّى لا يضيع الجهد الذي بذله نور الدين في توحيد ما وحدّه من الشام والعراق، وكي يحقّق حلمه وحلم نور الدين في إكمال توحيد الأمَّة وتحرير القدس والمسجد الأقصى.
لم يرق هذا التصرف لكثير من حكام الدويلات المسلمة، وبهذا كان صلاح الدين قد فتح على نفسه باب تحدٍّ جديد، فبالإضافة إلى النصارى الخطر الأكبر والأقوى، كان هناك الفاطميون (العبيديون) الشيعة الذين كانوا يحاولون استعادة حكمهم لمصر مستغلين الظروف الحالية، والجبهة الجديدة، وهم حكّام الدولة الزنكية الذين رفضوا الخضوع لصلاح الدين الأيوبي.
ولكنَّ إصرار صلاح الدين كان أقوى من التحدّيات، فاستطاع السيطرة على أجزاء كبيرة من الشام، واليمن، والحجاز، وبدأ بتجميع جيوشه من مصر والشَّام لتشكيل القوَّة اللازمة لهزيمة النصارى، وهنا برزت العقبات.. فكان حصن الكرك الذي يقع في الطريق بين مصر والشام وهو من أعظم الحصون وأكثرها تحصيناً، يقف عقبة دون تجميع القوات، وكان حاكمه (أرناط) خبيثاً حاقداً على المسلمين، فشعر أنَّه مستهدف بالدَّرجة الأولى من قبل صلاح الدين، فقرَّر تشتيت صلاح الدين، فماذا فعل؟
قام أرناط بتجهيز جيش بحري صنع سفنه داخل الحصن، وبسرعة كبيرة استطاع نقل السفن إلى البحر الأحمر والاتجاه نحو مكة والمدينة، فعلم صلاح الدين بالأمر، ووجَّه أخاه العادل لتدارك الأمر لقربه من البحر الأحمر، وبالفعل بعث العادل جيشاً أصغر من جيش النصارى وبدأ السباق..
فوصل النصارى قبل المسلمين إلى السَّاحل، ولكنَّ المسلمين أدركوهم عند سهل حوراء، وحدث القتال، ويشاء الله أن يهزم جيش النصارى مع أنَّه أكثر عدداً وقوَّة، وبهذا الهجوم ازداد يقين صلاح الدين بأهمية فتح حصن الكرك وإزالة تهديده، فداوم على إرسال قوى صغيرة تشغل النصارى في الكرك، وكلَّما استنجدوا بجيوش كبيرة انسحبت قوات صلاح الدين إلى الشَّام، ولكنَّ صاحب الكرك أخطأ خطأ فادحاً، حينما قام بالاعتداء على قافلة حجَّاج، فأسر من أسر، فذكروا له أنَّهم حجاج، فاستهزأ بهم، وقال: (قولوا لـ(محمّدكم) أن يأتي وينصركم)، فلمَّا علم صلاح الدين بالحادثة، نذر أن يقتل هذا الخبيث بيديه، وألغى الهدنة التي كانت قائمة بينه وبين مملكة القدس، لعدم معاقبتهم المسؤول عن هذه الفعلة الشنيعة.
إرهاصات المعركة..
واستمر صلاح الدين في توحيد قوى المسلمين، فاستطاع ضمَّ حلب والموصل إلى مملكته، ومن حلب هاجم مملكة إنطاكية، فلمَّا علموا بنية صلاح الدِّين تجهزوا وتحفزوا، فطلب منهم صلاح الدين الصلح فأجابوه، وكان يهدف بهذا إلى تحييد هذه الجبهة.
ثم إنَّ النصارى شعروا بالخطر المحدق بهم، وكانت الخلافات تدبّ بينهم، وكان منها ما كان يشعله صلاح الدين بنفسه، ولكنَّهم تجاوزوا خلافاتهم وتجمّعوا عند صفورية وهو مكان وفير المياه والخضرة، فلم يشأ صلاح الدين مقاتلتهم فيه، لأنها أرض تحت سيطرتهم ويعرفون جيّداً الإمكانات التي فيها مسخرة لهم، فبدأ يرسل لهم سرايا صغيرة تهجم وتنسحب بحيث يستدرجهم، ولكنَّهم فطنوا لهذا فرفضوا القدوم، فاستغل صلاح الدين هذا وذهب لفتح طبرية، وهي مدينة مهمَّة للنصارى، والطريق إليها من صفورية صعب وشاق وشديد الوعورة، فعادت الخلافات فيما بين النصارى؛ هل يتفرجون على طبرية والممالك التي بجانبها تسقط بيد صلاح الدين وهم في مكانهم، أم أنَّهم يغامروا وينصروا الممالك المهددة؟
إنفاذ أمر الله..
انتصر فريق النصارى القائل بوجوب نصرة طبرية، وبدأ جيش النصارى الكبير بالتوجه إلى طبريا في شهر هو من أشدّ الشهور حرارة، وفي طريق هي من أكثر الطرق وعورة، والجيش الكبير كهذا لا يستطيع أن يحمل كمية ماء تكفي للجيش، فكانت هذه إحدى المعضلات التي وقعوا فيها، وكان هذا مقصد صلاح الدين، ولم يكتف صلاح الدين بهذا .. بل الشمسيبتشكمسينبقام بتجهيز الكمائن والمصايد لهم على طول الطريق، لا لهزيمتهم بل لإنهاكهم، وكان من حنكة صلاح الدين أنَّه ردم الآبار التي في طريق الجيش، وتلك التي في مكان المعركة، وجعل بحيرة طبرية إلى ظهره حتَّى يسقي منها جيشه ويمنع منها جيش النصارى، وعندما قدم جيش النصارى قال قولته المشهورة: (أتونا ونحن أولو قوة وأولو بأس شديد).
المعركة الفاصلة ..
بلغ تعداد جيش المسلمين 12 ألفاً، أمَّا قوات النصارى فكانت 63 ألفَ مقاتل، التقى الجمعان على سهل جبل طبرية قبل حطين، وحال الليل دون التحام الجيشين، وبدأ القتال يوم الجمعة 24 من ربيع الآخر سنة 583هـ الموافق 3 يوليو- تموز 1187م واستمر طوال اليوم إلى أن حال بينهما الظلام، ولكنَّ جيش الصليبيين أنهك لوعورة منطقة معسكره، وقلة المياه والعطش الشديد، فقام بالانسحاب إلى سهل حطين، ولكن صلاح الدين حاصرهم ومنعهم من الانسحاب حتى تظل ظروف المعركة لصالحه.
وفي صبيحة اليوم التالي، استؤنف القتال مرَّة أخرى، وكان هدف الصليبيين اختراق الحصار ليصلوا إلى المياه، ولكن كان الحصار عليهم محكماً، إلى أن استطاع مجموعة من أقوى فرسان النصارى بقيادة (ريموند) اختراق هذا الحصار، ولكنَّه ما لبث أن اكتشف أنَّها كانت مصيدة عندما وجد نفسه معزولاً عن بقية الجيش، وقد استفردت به قوَّة مسلمة كانت بانتظاره، فدبَّ الخوف في قلبه، وانطلق مع جنوده بسرعة، ولم يتوقف حتَّى وصل إلى طرابلس، وبهذا استطاع صلاح الدين إبعاد أشدّ قوّة لدى الجيش النصراني، وهنا بدأت الرِّياح تهبّ في وجه النصارى، فأمر صلاح الدين بإشعال الحشائش والأعشاب الجافة، فاجتمع على النصارى العطش والدخان وحرارة الحريق، وهنا بدأ الإثخان في النصارى، حتَّى وصل عدد قتلاهم إلى ثلاثين ألفاً .. وأسراهم إلى ثلاثين ألفا آخرين، ولم يبق إلاَّ مئات يحمون ملكهم باستماتة عجيبة، حتَّى صدوا ثلاث هجمات للمسلمين على خيمة الملك، فأشار صلاح الدين بأن استهدفوا الخيمة، وبالفعل استطاع المسلمون إسقاط خيمة الملك، فاستسلموا، وهكذا كانت نهاية الجيش الصليبي، بين قتيل أو أسير أو فار وهم قلة.
وهنا خرَّ صلاح الدين شاكراً لله عز وجل على هذا النَّصر العظيم، الذي تاق له المسلمون عشرات السنين، وبدأ الإعداد له أيضاً عشرات السنين حتَّى منَّ الله على المجاهدين بالنَّصر والتمكين، وقد غنم المسلمون غنائم عظيمة، وكان أبرز ما غنموا من النصارى صليب الصلبوت الذي يعتقدون أنَّ المسيح صلب عليه، وكانوا لا يخرجونه إلاَّ في المعارك الكبرى، ولم يحدث أن خسروا في معركة أخرج فيها هذا الصليب، فكانت فاجعة عليهم.
عزَّة بعد النصر ..
سيق لخيمة صلاح الدين ملك النصارى ومعه أرناط الغدَّار، فأكرموا، وأمر صلاح الدين بالماء للملك، فشرب نصف الإناء وأعطى النصف الآخر لأرناط، لأنَّ شرب الماء عند الملوك يعني الأمان، فغضب صلاح الدين، وقال للملك: (لقد أمرت بالماء لك وليس له)، ومنع أرناط من الماء، وعرض عليه الإسلام فامتنع، فقال له صلاح الدين: أنا أنوب عن محمّد في الدفاع عن حجَّاج بيت الله وضربه بالسيف فقتله، فارتعد ملك النصارى، فطمأنه صلاح الدين، وقال له: (ليس من عادتنا أن نقتل الملوك، ولكن هذا غدر وخان).
ثمَّ أمر صلاح الدِّين بإحضار أعضاء فرقتين من جيش النَّصارى من أشدهم وأعتاهم، فعرض عليهم الإسلام، وحينما رفضوا الإسلام أمر بقتلهم جميعاً، لأنَّهم أشدّهم كرهاً للإسلام والمسلمين.
عاد صلاح الدين إلى دمشق وساق بين يديه ثلاثين ألف أسير، باعهم في سوق الرّقيق، ونزل سعر العبيد حتَّى بيع أحدهم بدرهم وآخر بنعل، فكانت هزيمة نكراء في حق الصليبيين، فلطالما نكلوا بالمسلمين عشرات السنين الخالية، فسمع بهذا الذل ريموند القائد النصراني القوي الهارب إلى طرابلس فمات كبداً وهمّاً لما أصاب أهل ملته.
وكانت أعظم نتائج الانتصار في معركة حطين؛ هو تحرير بيت المقدس من يد النصارى، بعد حوالي تسعين عاماً من الأسر، وعودة العزَّة للمسلمين بعد عقود من الهزائم والتشتت والتشرذم.