أطلت تهلل بالبشرى الكبرى , بعينين تشعان بريقاً وسحراً, لتمتزج فرحتي بفرحتها
وبفرحة كل الحاضرين اليوم ,, فاليوم ميلادٌ جديد , ميلاد حافظةٍ لكتاب الله تعالى حفظت القرآن في صدرها وامتزجت بمعانيه روحها , ليترجم عملاً بعد علم ...
أمنيتي التي عشت تسع سنوات أسقيها جهداً وصبراً, اليوم تحققت , اليوم كبرت مريم وصارت تشع نضوجاً وفكراً ...
اليوم حصاد زرعي الذي رعيته بدفء قلبي، ودعوت الله دوماً أن أرى ثماره أينعت إن في حياتي , أو بعد مماتي ...
تلك أمنيتي الكبرى تتحقق , ومريم اليوم تشع نوراً وسحراً ... إنَّها اليوم من حافظات كتاب الله تعالى . بيديها الناعمتين وأناملها الرقيقة ستلبسني تاج الوقار، فأيُّ فرحةٍ وأيُّ سعادةٍ وأيُّ بشرى ...
تذكرت السَّاعات الطوال , في الليالي الحالكة , حين كان صوت مريم يصدح بآيات الذكر الحكيم , فتخشع دموعي لحنوِّ صوتها , ويبتهج قلبي لإتقانها لأحكام التجويد ومثابرتها على الحفظ المتقن .
وأتحسس مريم , فإذا هي تنام تحت قدميّ , فأوقظها لصلاة الفجر قائلةً :" لمَ تنامين
هنا يا مريم ؟؟".
فتجيبني : " الجنةُ تحت أقدام الأمهات , أحمد الله أن لي أماً أنام تحت قدميها ".
ونستأنف الحفظ والمراجعة بعد صلاة الفجر , وأعيش مجدّداً مع صفاء صوتها وعذوبته , فأتمنى ألاّ يطلع الصَّباح ولا تسكت مريم ...
لم أفرح بولادة مريم بقدر فرحتي بها عندما أتمت حفظ كتاب الله , ولم أتعب في تربيتها وفي تقويم سلوكها كما عانيت في تربية أخويها . فقد كانت مريم تستقي من تعاليم القرآن وهديه نبراساً لطريقها , وقد كنت أفسّر لها الآيات قبل أن تحفظها
وأجيب عن أسئلتها التي كانت تدلّ على نبوغ وذكاء ...
فكانت تلك الطفلة الصغيرة لا تستحسن إلاَّ ما استحسن الشرع , وتبتعد عن كل ما يغضب الله , فكنت أقول دوماً " لست أنا من رباها وعلمها وقوّمها , إنما القرآن "
كم قرأت كتباً تربوية لتساعدني في تربية أخويها اللذين يكبرانها , وكم فكرت في أساليب إبداعية لتربيتهما أحسن تربية وتنشئتهما على البرّ والطاعة , ولكنني ما أفلحت وسعدت إلاَّ عندما بدأت بتحفيظ أبنائي آيات الذكر الحكيم من " القرآن الكريم" . لا أقول بأنَّ كتب التربية وعلم النفس والتواصل وغيرها من الكتب القيّمة لا تفيد، وإنَّما تكون الطريق أكثر سهولة عندما نعيش مع أبنائنا في ظلال " القرآن الكريم " ... ننهل سوياً من نبعه الصافي العذب ونتشارك قطراتٍ إيمانيةً روحانيةً ترتوي منها صدورنا وتسعد بها قلوبنا , في حلق الذكر التي وصفها رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسَّلام بأنها ... روضةٌ من رياض الجنة ...
بنيّتي ... ألبسيني اليوم تاج الوقار , وألبسي ثوب السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة.
فهنيئاً لمن كان القرآن في قلبه وعقله , وهنيئاً لك سراج النور الذي أشعلتِ , وهنيئاً لي بك وبأخويكِ ...ولكنني ما أفلحت وسعدت إلاَّ عندما بدأت بتحفيظ أبنائي آيات الذكر الحكيم من " القرآن الكريم"
أمام جموع المهنئات ... وقفت مريم ... كنت أظن أنَّ الإرباك والخجل سيسيطران عليها , ولكنَّها فاجأتني بابتسامةٍ واثقةٍ صوّبتها نحوي , فأصابتني في قلبي ناثرةً كل الحب والعرفان في جنباته , قالت كلماتٍ لا أدري من أين استحضرتها، ولكنني واثقةٌ بأنَّ القرآن هو الذي جعل من ابنتي تلك الألمعية النابغة .
قالت مريم : " أشكر الله الذي جعلني ابنتك , يا أمي , وأسأله تعالى أن يجمعنا في مستقر رحمته " .
ذهلت من فصاحة لسانها , وعلمت صدقاً أنني لو استعنت بأكبر خبراء التربية ما صنعت تلك الفتاة الرَّائعة , ولكنه " القرآن " ...
مريم ابنتي ليست فريدة أو وحيدة , ليست نابغة ً أو خارقة ,, ولكنَّها فتاة القرآن رفيقها وصديقها ومرشدها ومقوّمها ...
ابنتي فتاة ككل الفتيات , تلعب وتفرح , تذهب للمدرسة وتذاكر وتزور صديقاتها ...
لكنَّها نذرت ساعتان للقرآن يومياً , ساعةٌ بين المغرب والعشاء , وساعة بعد صلاة الفجر , وقد كنت دوماً بجانبها أعينها وأصحح لها تلاوتها .
وتلك من الأسرار التي أحببت أن أبوح بها اليوم لكل أم أرادت أن تأخذ بيد أبنائها وتشجعهم وتعينهم على حفظ كتاب الله تعالى :
- السر الأول : في إخلاص النية والقصد لله تعالى فمهما أخذنا بالأسباب وعملنا وفق برمجيات معينة , لا نفلح ولا نسعد إلا بالإخلاص , فكم من سعاةٍ سعوا واجتهدوا وضلّ عملهم لعدم إخلاص النية لله تعالى . قال تعالى :{ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً }
- السر الثاني : يكمن في إدراك أهمية الاهتمام بأبنائنا في الصغر، فهم خامات بيضاء ننقش عليها ما شئنا , فعقولهم الصغيرة أقدر على الحفظ , فالحفظ في الصّغر , كالنقش على الحجر .
-السر الثالث : في حسن اختيار الزمان والمكان , فأجود الأوقات للحفظ الأسحار, وأجودها للبحث الأبكار , وللتأليف وسط النهار , وللمراجعة والمطالعة الليل .
فعند السحر يكون الدِّماغ جاهزاً للحفظ واستلام المعلومات، وهذا فعالٌ بالتجربة والبرهان .
أمَّا المكان، فيجب أن يكون شاغراً من الملهيات فأكثر الأماكن ملاءمةً هي التي نحفظ فيها أعيننا وقلوبنا وألسنتنا وأسماعنا لتكون كل حواسنا مجتمعةً في تحقيق التركيز للحفظ المتقن .
- السّر الرَّابع : يكمن في تعليم أبنائك أحكام التجويد تلقيناً أو دراسةً , كلٌ حسب عمره، فالحفظ يكون أسهل مع تطبيق الأحكام فالإنسان – كل إنسان – مفطور على حب النغم منذ أن كان جنيناً في بطن أمه يستمع إلى لحن دقات قلبها , فالطفل يهدأ عندما تضعه أمه على صدرها، لأنَّه يتذكر ذاك اللحن الذي طالما سمعه وبقي وفياً له .
- السّر الكبير : اجعلي لطفلك مصحفاً خاصاً وامهريه بإهداء من أمِّه المحبَّة .
- السر السَّادس : استعيني بكتب التفسير لتشرحي له الآيات واربطي شرحها بواقعه وحياته اليومية، ليصبح حفظها أسهل عليه ولا تنسي لما لقصص القرآن من تأثير وسحر على الأطفال خاصةً.
- السّر السَّابع : سجلي شريطاً بصوته وأسمعيه لأقاربك وأحبائك , فكلمات الثناء والتقدير تفعل الأفاعيل في نفوس أبنائنا الصغار .
- السّر الثَّامن : لا تثقلي عليه إن كان مريضا أو متكاسلاً واستعملي أسلوب الترغيب وكلمات التشجيع، واغرسي في نفسه حب الله أولاً ليكون الدافع نابعاً من ذاته , واعلمي دوماً أن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع .
- السّر التَّاسع : قدّمي له هديةً كلَّما أتم حفظ جزء، واطبعي قبلةً على جبينه كلَّما انتهى من الحفظ كلّ نهار , فتلك المحفزات تعني الكثير بالنسبة لأطفالنا .
- السّر العَاشر : الالتجاء إلى الله وطلب العون منه فهو وحدة القادر على تيسير أمورك ومدّك بالصَّبر والحلم والحكمة ولندعُ دائماً لأبنائنا بالصلاح والفلاح , فدعاؤك أيتها الأم مستجاباً فاغتنمي تلك المنحة التي منحها لك ربّ العزة .
تلك من أسراري التي اجتهدت باعتمادها مع أبنائي لأخرّج اليوم ثلاثة من حفظة القرآن الكريم أصغرهم مريم التي ما أكملت تسعة أعوام بعد، ولكنها تذاكر لي لإتمام الجزء الأخير من كتاب الله تعالى , لأُلبس بدوري أبوي تاج الوقار .
في كل بيت مريم , ولكن ليس في كل بيت أبوان يعرفان حقاً حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من حفظ القرآن البس والديه يوم القيامة تاج الوقار , أقل ياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها)).
فلا تتركوا أبناءكم ضحية البرامج الفاسدة , والفراغ المفسد , وإنَّما وجهوا طاقاتهم نحو الخير , وخير الخير هو "القرآن الكريم " فهو النور الذي سيضيء لهم عتمة الطريق , وبه سعادتي الدنيا والآخرة ...