خديعة أخرَّت فتح القسطنطينية ثمانية قرون–د.خالد الخالدي

الرئيسية » حصاد الفكر » خديعة أخرَّت فتح القسطنطينية ثمانية قرون–د.خالد الخالدي
alt

حرص المسلمون على فتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية منذ وقت مبكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشر بفتحها، وأثنى على فاتحيها فقال:" لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذلك الْجَيْشُ"، ولأن بقاءها دون فتح يعني بقاء خطر الإمبراطورية البيزنطية التي تطمع في استعادة الشام ومصر، وقد بذلوا في عهد معاوية جهوداً كبيرة لفتحها، فغزوها سنة 49هـ بجيش كبير، شارك فيه بعض كبار الصحابة كابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبوأيوب الأنصاري الذي توفي ودفن قرب سورها، لكنهم لم ينجحوا في فتحها بسبب حصانة أسوارها، وإحاطة المياه بها من ثلاث جهات، وشدة البرودة حولها، ثم شدة التيارات المائية القادمة من البحر الأسود، والتي كانت تعوق حركة السفن وتردها على أعقابها. ثم غزوها مرة أخرى سنة 54هـ بأسطول ضخم وجيش بري كبير، وحاصروها سبع سنوات، ثم انسحبوا حيث اضطر معاوية لعقد هدنة مع البيزنطيين سنة 60هـ.

وعندما تولى الخلافة سليمان بن عبد الملك (96-99هـ) جعل فتح القسطنطينية هدفه الكبير، وكرس كل جهوده لتحقيقه، فأعد جيشاً برياً ضخماً بلغ عدد جنوده نحو ثمانين ألفاً، وآخر بحرياً حملته أكثر من ألف وثمانمائة سفينة، وزوده بالعتاد والمؤن الذي يكفيه لسنوات عديدة، وأوكل قيادة الجيش لأخيه مسلمة الخبير بالقتال في أرض الروم، وقرر أن يقيم هو في مرج دابق ويتخذها مركز قيادة متقدمًا لقربها من القسطنطينية، "وأعطى الله عهداً ألا ينصرف حتى يدخل الجيش الذي وجهه إلى أرض الروم القسطنطينية".

سار مسلمة بجيشه نحو القسطنطينية، وكان كلما فتح مدينة للروم أو حصنًا خربه، حتى لا يحتمي به الروم من جديد، وعندما وصل إلى عمورية عاصمة إقليم الأناضول، أحكم عليها الحصار، فاتصل به ليون الأيسوري حاكم الإقليم، وبعث إليه كتاباً عرض فيه المساعدة في فتح القسطنطينية مقابل فك الحصار عن عمورية وعدم تخريبها، "فقرأ مسلمة كتاب ليون على الأمراء وأهل مشورته، فاجتمع رأيهم جميعاً على إجابته إلى ما سأل، وسكت مسلمة بن حبيب بن مسلمة - وهو أمير الجند - فقال مسلمة بن عبد الملك: أيها الشيخ، مالك لا تتكلم؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الروم فقال: "أصحاب صحر ونحر ومكر" وهذه إحدى مكرهم، فلا تعطه إلا السيف. فتضاحك به أمراء الأجناد، وقالوا: كبر الشيخ. وقالوا: ما عسى أن يكون عند ليون مع هذه الجموع"؟.

وافق مسلمة بن عبد الملك على العرض، فنزل ليون، وسار معه نحو القسطنطينية، وعندما وصلها المسلمون أحكموا حصارها، فطلب ليون السماح له بالدخول إلى القسطنطينية لإقناع قيادتها بالاستسلام، فسمح له، فدخلها، والتقى بقادتها وأهلها، وأكد لهم أن المسلمين عازمون على فتح المدينة، وأنهم لن يعودوا قبل تحقيق هدفهم، وأن لديهم إمكانات هائلة تعينهم على النصر والفتح، وبيَّن لهم قدرته على إفشال المسلمين إن توَّجوه ملكاً على القسطنطينية، وإمبراطوراً على الدولة البيزنطية، فوافقوا، وتوجوه ملكاً وإمبراطوراً، فخرج والتقى بمسلمة، وقال له: إن أهل المدينة عازمون على الصمود وعدم الاستسلام، لأنهم يعتقدون أن المسلمين غير مصممين على البقاء...

ونصح مسلمة أن يتصرف بشكل يقنع أهل القسطنطينية بعزم المسلمين الأكيد على اقتحام المدينة، وأنهم مستميتون لتحقيق الفتح، واقترح أن يجمع المسلمون كل ما لديهم من طعام ومؤن ويحرقونه، ليصدق الروم أن الهجوم على المدينة بات وشيكاً فيستسلموا، وصدّق مسلمة، وأحرق كل طعام الجيش ومؤنه، وطلب ليون العودة إلى الروم لإقناعهم بأنهم سيتعرضون لهجوم كاسح إذا لم يستسلموا، ودخل إلى المدينة، وأغلق الأبواب، ولم يعد، وأدرك المسلمون أن ليون قد خدعهم، ونفد طعامهم، وجاعوا حتى أكلوا جلود الدواب، يقول الطبري:" وقد خدعه خديعة لو كان امرأة لعيب بها، فلقي الجند ما لم يلق جيش حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وكل شيء غير التراب". وعندما علم سليمان بالخديعة التي تعرض لها المسلمون غضب، وأقسم ألا يعود إلى دمشق حتى يجهز الجيش من جديد ويفتح به القسطنطينية، وبدأ الإعداد، لكنه توفي، وعندما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، أمر بفك الحصار عن القسطنطينية والعودة، بسبب الجوع والإرهاق الذي حل بجيش المسلمين نتيجة لخديعة ليون الأيسوري.
وهكذا فشل المسلمون في فتح القسطنطينية، فتأخر فتحها إلى سنة 857هـ/1453م، بسبب تصديقهم وعداً تعهد به أحد قادة الروم.
فهلا تعلم القادة في زماننا، وتوقفوا عن تصديق وعود أحفاد الروم وتعهداتهم؟!.

المصدر: صحيفة فلسطين (غزة)

معلومات الموضوع

الوسوم

  • التاريخ
  • اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

    شاهد أيضاً

    قراءة سياسية في عبادة الصيام

    عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا …