في ظلال السيرة مواقف لا تنسى، يقف أمامها الإنسان خاشعاً متأملاً عظمة هذا الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام، الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، ففتح به عقولاً وقلوباً وأبصاراً..
هذا النبيُّ الكريم من تحنّ الأفئدة لمسمع سيرته، وتطمئن القلوب بعذب حديثه، حمل الأمانة فأدَّاها والعقبات كؤود، وأرسى الإسلام والأشواك تبث سمومها في الطريق.. موقف صغير وحديث قصير، لكنَّه يعني آمال أمة وحياة دين..
ومن لهذا إلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزل بأمَّة الإسلام الوليدة ورجالها الضعفاء ما نزل من الاضطهاد والأذى على يد عتاة الكفر وطغاته لا شيء إلاَّ أن يقولوا ربنا الله..
يوم لم يسلم منهم حتَّى رسول الله.. آذوه داخلاً وأسفوا خارجا.. يوم كان خبَّاب يعذَّب بالنَّار، وبلال تحت الرَّمضاء، وآل ياسر بالنكال، في هذا الجو القاسي الأليم والذي تنوء بحمله الجبال كان رسول الله يستقبل كل ذلك بالرِّضا واليقين، بعزيمة المؤمن بربِّه الواثق بوعده مع أنَّه – آنذاك – لا يمك لهؤلاء المستضعفين من الأمر شيئا.
يأتيه خباب.. ألا تستنصر لنا!! .. ألا تدعو لنا!!..
ما أصعب الموقف وخبَّاب المكلوم المظلوم أيام رسول الله في ظل الكعبة لكنَّه رسول الله، لكنَّه الإسلام والضريبة والامتحان..
إنها سنة الله في خلقة وفي أرضه ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيه، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد مادون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتَّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، فلا يخاف إلاَّ الله والذئب على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون)). (رواه البخاري في صحيحه).
لك الله يا خبَّاب، كم علمك رسول الله من دروس! وكم بثَّ من يقين..
هكذا الدعوة إلى الله عزَّ وجل، تلتف حولها السياط حيناً، وتتناوشها الرِّماح حينا آخر، وربما سيقت بأصحابها إلى الحتف قسراً، فهل ماتت دعوة الإسلام، هل خفت نورها، هل وقف رسول الله مستسلماً لهؤلاء الجبابرة؟
لا وربِّي، لقد ألجم ألسنة هؤلاء بالكلام المعجز، وأرهب أفئدتهم بالإيمان الوقَّاد، وسار وحيداً في أرض عراء، تتلقفه شياطين الإنس والجنّ، وبدأت الكوكبة المؤمنة تعيش الصَّبر وتقتات البلاء، كلّ ذلك كي يبدأ غرس الإسلام قويّاً لا تهزّه أعاصير الجاهلية في وجه ريح الضّلال..
يا رسول الله، عذراً.. فما يكتب القلم وهو يقرأ هذا المشهد العظيم، وما يقول اللِّسان وقد أسكتت همتك كلّ بيان!!
علمت أصحابك التضحية في سبيل المعتقد والدِّين، ربَّيتهم على الشدائد والمحن، كما أراد الله كي يعلم التاريخ وتفهم الأمَّة أنَّ أصحاب الدَّعوات في عالم اليوم قليل، كي يدرك المسلم أنَّ العمل للإسلام يحتاج رجالا تعانق جباههم السَّماء، وهم تحت الشَّمس المحرقة يقولون .. أحد أحد ... أحد أحد ..
هكذا هي سنة الله عزَّ وجل لمن أراد أن يكون كبيراً عند الله، لمن شقَّ حياته للبناء والتفاني في هذا الدِّين، ستأتي المحن لا محالة، فماذا أنتم فاعلون!!!
لقد علم رسول الله أصحابه هذه المعاني كما بينها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه.. (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلو من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله . ألا إن نصر الله قريب)، (البقرة: 214).
وقد صدقت يا سيدي يا رسول الله فداك أبي وأمي، وعلت كلمة الإسلام وعمّت، وصعد بلال العبد ليكون بلال الكعبة وليعلن للأرض والسَّماء نداء الله أكبر ..
يا أصحاب رسول الله، ما حملكم على هذا الصبر؟ ما الذي دفعكم إلى هذا الدين؟ وقد سلقتكم الألسنة وأذابت لحومكم السياط وخسرتم المال والأهل والولد، فلم يزدكم ذلك إلاَّ ثباتاً، بل قوَّى فيكم الأمل وشحن عندكم المسير..
ما هذا السرّ الذي عقب الألم وأحلَّ مكانه الثبات؟ ما الذي جعل عذاب المحنة في سبيل الله منحة عندكم، أيها الكرام العظام!!
إنَّه الإيمان الذي ربَّاكم عليه رسول الله، والتعيين الذي غرسه في أرواحكم قبل أفئدتكم، حتَّى أصبحتم تعيشون الجنة في قلب الألم وتحبون الراحة رغم قساوة الجلاد.
قد يقول قائل: ولم هذا العذاب والألم، والله عزَّ وجل قادر على أن يجعل الناس كلّهم مؤمنين؟ والجواب بسيط من قول ربنا عز وجل: {وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين}. ( آل عمران: 141).
إنَّ هذه الأمَّة اختارها الله خير أمة أخرجت للناس، وفضل رسولها على كافة الخلق، واصطفى رجالها على غيرهم من العالمين، فكان لا بدَّ من التمحيص والامتحان حتَّى يميز الله الخبيث من الطيّب، ولا يبقى للأمَّة إلاَّ غرس صالح ونبت كريم.
وإنَّ من حكمة الله عزَّ وجل أن يقوّي المؤمنين وقت الصعاب، ويزيدهم ثباتاً إلى ثبات، كلَّما اشتد الألم وادلهم الخطب، قويت شكيمتهم، واشتد عودهم وكانوا كذلك حتى يأتي وعد الله.
على هذه الأخلاقيات، وبهذه القواعد تخرَّجت مدرسة النبوة على يد رسولها الأمين صلَّى الله عليه وسلّم، فكانت خير أمة أخرجت للناس.
فما أحرانا نحن السائرون في الدَّرب، السَّالكون هذا السبيل، أن نقتفي الأثر، والخطب قد عمَّ والحاقدون كثير، والقليل من يكرمه الله عزَّ وجل بالوصول، إننا نعيش الدَّعوة في حياتنا المعاصرة على حقل من الألغام، فالكل يتصيَّد السالكين، ويصنع في مشوارهم العراقيل، تارة بالاتهامات، وأخرى بالشبهات، وبين هذا وذاك نرى من أصابهم القيد، وغلّهم السجن، وذاقوا من أجل دعوتهم الكثير..
والصَّابر من صبّره الله عزَّ وجل، والقويُّ من أمدَّه سبحانه، فهل سنكون مع هذا الجيل الصَّاعد والغد الوافد في بناء ما أفسده الطالحون، هل نحن على استعداد للتضحية بالغالي والنفيس في سبيل هذا الدِّين، نريد للأمَّة شباباً يفتحون العقول، شباباً لباسهم الخشوع، ودينهم الدَّعوة لهذا الدين.
عندنا والحمد لله، الطاقات ولدينا القدرات، لكن ينقصنا البناء والتأسيس، اليقين والتمحيص، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحابته وفق ما كتب الله سبحانه لهم في هذا الطريق؛ فكانوا مشاعل أنارت البشرية بعد طول ظلام، ومصابيح أسرجت العقول، وقد غلّها ليل الجهل والكفر، كانوا المثل والقدوة فسادوا، صبروا وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فأثابهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة.. وهذا ما نرجوه لأمتنا الصاعدة إن شاء الله من جديد من رفعة وتمكن وعزّ لهذا الدين.
أيّها الشباب المؤمن: اثبتوا في المواطن، واصدقوا في الصعاب، وسوف تفتح لكم الأبواب، كما وعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وكما بنى وزكّى وأرشد، وغداً إن شاء الله نلتقي بفضل منه سبحانه مع بلال وعمَّار وصهيب مع حذيفة وسلمان ومصعب..
ليفرح بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سرنا على الدرب وبذلنا الصعاب، واتكلنا على الله سبحانه وتعالى في كلِّ شيء، علنا نكون من الغرس الذي ذكرته لنا يا رسول الله: ((لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته)). (رواه ابن حبَّان في صحيحه).