جيل النصر والأسس المطلوبة

الرئيسية » بصائر الفكر » جيل النصر والأسس المطلوبة
alt

يقول الإمام محمد الغزالي "رحمة الله عليه": "إنَّ اللهَ ربَّى محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم على عينه ليربِّيَ به العرب، وربَّى العرب بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ليربِّيَ بهم البشريَّة".

ويقول الدُّكتور عبد الرَّحمن عبد الحميد البر: "وهذا ما حدث.. ربَّى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم حوله جماعةً من أصحابه تربيةً خاصةً، فكان الواحد منهم أمةً، واستطاعوا بفضل الله أن يفتحوا بالإسلام مشارق الدنيا ومغاربها؛ حيث أدرك النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بتوفيق الله له أنَّ البداية الحقيقية تكون بتقوية الهمم واستنهاض العزائم لحمل مشروع الإصلاح، ولا يمكن أن يتأتَّى ذلك بغير يقظة روحية قوية تحرِّك المشاعر الساكنة وتحمل النفوس الكليلة العليلة".

ويقوم المنهج القويم لبناء الإنسان المسلم المجاهد على عددٍ من الأسس المعنويَّة والمادِّيَّة، أما المعنويَّة منها فعلى رأسها بطبيعة الحال الإيمان بالله تعالى ورسوله الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم" والتَّمسُّك بدينه وتعاليمه والتَّواضُع والمحبَّة وإخلاص النِّيَّة، وخشية الله تعالى والثَّبات والصَّبر والطهارة والمداومة على العبادات، أمَّا الماديَّة منها فمِن بينها تنقية الصَّفِّ مِن الخونة والعملاء والمرجفين، وتدريبه لإعداد المجاهدين القادرين على حمل السِّلاح والقتال في سبيل الله تعالى.

وقد استطاع الرَّسول الكريم مُحمَّدٌ "صلَّى الله عليه وسلَّم" أنْ يفعل ذلك حين أيقظ الأرواح بأنْ غرس في نفوس المؤمنين أربعةَ أمورٍ أساسيَّةٍ، وهي:

المسلمين على الحقِّ:

حيث لابدَّ أنْ يتمَّ بناء الجيل الجديد من المسلمين بذلك، وهو أنَّ الإسلام ورسالته هي وحدها الحق في هذه الحياة، وكلُّ الدَّعوات الأخرى زائفةُ باطلةُ.. قال تعالى: ﴿فَذَلِكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ﴾ [سورة يونس: الآية 32]، وبالتَّبِعَة، فإنَّ الإيمان بأنَّ الإسلام هو دين الحقِّ، يعني اتِّباع القرآن الكريم وصحيح السُّنَّة النَّبويَّة، واتِّباع تعاليم الإسلام كافَّة.

وقد كانت هذه المسألة هي أوَّل ما حَرِصَ الرسول الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم" على غرسها لدى الصَّحابة الأوائل، وكان من نجاحه "صلَّى الله عليه وسلَّم" في ذلك أنَّهم لم يكونوا على أيِّ استعدادٍ للمُساومة على إيمانهم أو التَّراجُع عنه، أو التَّردُّد في نصرته والتَّضحية بكلِّ شيءٍ مِن أجله، وبطبيعة الحال يخبرنا التَّاريخ وصحيح السِّيرة النَّبويَّة عمَّا تحمَّله المسلمون الأوائل مِن تعذيبٍ في سبيل إيمانهم، ومن ترك وراءه تجارته وأمواله هجرةً في سبيل الله تعالى وفرارًا بدينه من مشركي وكُفَّار مكَّة المُكرَّمة.

الاستمساك بهذا الحقِّ:

فما دام المسلمون يعلمون أنَّهم على الحق؛ فيجب أن يعتزُّوا به ويستمسكوا به، كما فعل الصحابة الأوائل، ولا يجب على المسلم المواراة في الحقِّ أو المجاملة فيه، لأنَّ الإسلام أسمى رسالةٍ وأعظم دعوةٍ، وهي دعوة جميع الأنبياء، التي فيها صلاح البشريَّة وخلاصها مِن الشُّرور والمظالم المتراكمة، وإخراجها مِن الظُّلمات إلى النُّور.

ولنا في صحابة الرسول الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم" أسوةٌ حسنةٌ في ذلك، ومن بين المواقف التي يذكرها الَّتاريخ  للفاروق عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" أنَّه خرج إلى الشَّام ومعه عددٌ من المسلمين، كان من بينهم أبو عبيدة عامر بن الجراح "رضي الله عنه"، فأتوا على مخاضةٍ أو بركةٍ ممتلئةٍ بالمياه، وسيدنا عمر على ناقةٍ له، فنزل عنها وخلع خُفَّيْه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاص بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين.. أنت تفعل هذا؟!.. تخلع خُفَّيْك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟!.. ما يسرُّني أنَّ أهل البلد استشرفوك، فقال عمر: أوه.. لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة؛ جعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.. إنَّا كُنَّا أذلَّ قومٍ فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله.

هكذا فهم المسلمون الأوائل الذين تربَّوا في مدرسة النبوة الكريمة؛ ولذلك كان الصحابي من هؤلاء يدخل على ملوك الدُّنيا مُعتزًّا بدينه وبالحقِّ الذي يحمله؛ لا يرى نفسه دونهم ولا يجد في قلبه خشيةً مِن مواجهتهم بهذا الحقِّ.

الثِّقة بنصر الله

إنَّ الإنسان المسلم إذا عَلِمَ أنَّه على الحقِّ واعتزَّ به، يجب أنْ يثق في أنَّ هذا الحقُّ هو المنتصر بإذن الله رب العالمين.. قال تعالى ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [سورة غافر: الآية 51].. وقال أيضًا في الآية السَّابعة والأربعين من سورة "الرُّوم": ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وعن مواصفات من تعهَّد الله تعالى بنصرهم: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41)﴾ [سورة الحَجِّ]، وأيضًا من صفاتهم أيضًا ﴿إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [سورة الأعراف: مِن الآية 128].

ومن بين الهدي النبويُّ في ذلك، قوله "صلَّى الله عليه وسلَّم: "ليبلُغنَّ هذا الأمر ما بلغ الَّليل والنَّهار، ولا يترك الله بيتَ مدر ولا وبر- أي لا يترك بيتًا من الطين ولا بيتًا مِن الشَّعر إلا دخله الإسلام- إلا أدخله الله هذا الدِّين بعزِّ عزيزٍ أو بُذل ذليل؛ عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر" [أخرجه أحمد في مسنده].

وكان هذا اليقين موجودًا لدى الرَّسول "صلَّى الله عليه وسلَّم" وصحابته حتى في أصعب المواقف، وحتى في تلك المواقف التي زلزلوا فيها زلزالاً شديدًا كما في يوم الأحزاب؛ كان التَّثبيت لهم من الله، وملأ قلوب الصحابة يقينًا بهذا بفضل إيمانهم.. قال تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَ (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا (11)﴾ [سورة الأحزاب]، وفي هذه الأزمة يُعلن النَّبيُّ "صلَّى الله عليه وسلَّم" للجميع أنَّ الله سيُمكن لهذا الدين وينصر هذا الحق حتى يبسط رداءه على العالمين.

العمل لهذا الدِّين:

كنتيجةٍ منطقيَّةٍ لما سبق، فإنَّ الإنسان مادام على الحقِّ، وما دام معتزٌّ بدينه، وما دام واثقًا من أنَّ الله تعالى سينصُر هذا الدِّين؛ فإنَّه ينبغي العمل لهذا الدِّين؛ لأن النصرَ لن ينزل من السماء دون عملِ المؤمنين وجهادهم لبلوغ هذا النصر.. وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ [سورة النُّور- الآية 55].

أي، وكما يقول الدكتور البر، فإنَّ لابدَّ العمل من أجل أنْ يأتيَ النَّصر للإسلام، ولا نقول كما قال بنو إسرائيل لمُوسى "عليه السَّلام" كما ورد في الآية الرَّابعة والعشرين من سورة المائدة: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾.

ولكن الصَّحابة الأوائل في المقابل، وفي غزوة بدرٍ، عندما استشار رسول الله "صلَّى الله عليه وسلَّم" أصحابه، قام المقداد بن عمرو "رضي الله عنه" فقال: "يا رسول الله.. امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: فاذهبْ أنت وربُّكَ فقاتلا إِنَّا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سِرتَ بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه"، فقال له رسول الله "صلَّى الله عليه وسلَّم":"خيرًا"، ودعا له به [رواه البخاريُّ].

هكذا كان المسلمون، في عملٍ دائم؛ حيث لا سبيلَ إلى النصر إلا بالعمل.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [سورة مُحمَّد- الآية 7]، ولكن يجب أيضًا تذكُّر قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [سورة مُحمَّد- من الآية 38].

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …