الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وبعد..
ها نحن نتنسم نفحات شهر رمضان الكريم، الذي نسعد بقدومه؛ لما فيه من نفحات ربانية، ورحمة ومغفرة وعتق من النار، ولما فيه من دروس عظيمة؛ فهو مدرسة للتعليم والتعلم وللتربية بكل معانيها ، يتربى فيه المسلم على شتى العبادات والأخلاق العالية القويمة، ويزكي نفسه من الأخلاق السيئة الذميمة، ويحرر إرادته من كل سلطان أو قيد ويعلي همته ويهذب سلوكه.. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (البقرة: 183) فتقوى الله سبحانه وتعالى ومراقبته في السر والعلن من أعظم حكم ومقاصد شهر رمضان الكريم.
فمن حكمة الله سبحانه أنْ فاضل بين مخلوقاته زمانًا ومكانًا، ففضَّل بعض الأمكنة على بعض، وفضَّل بعض الأزمنة على بعض؛ ففي الأزمنة فضَّل شهر رمضان على سائر الشهور، واختصه بفضائل عظيمة ومزايا كبيرة..
فهو الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن، قال تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان) (البقرة: 185)..
وهو الشهر الذي فرض الله صيامه: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } (البقرة:183).. (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (البقرة: 185)
وهو شهر التوبة والمغفرة، وتكفير الذنوب والسيئات.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" (رواه مسلم)، وقال: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه"..
وهو شهر العتق من النار؛ ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: "وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة" (رواه الترمذي)..
وهو شهر تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران، وتصفد الشياطين، قال صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين"؛ أي أنهم يجعلون في الأصفاد والسلاسل، فلا يصلون في رمضان إلى ما كانوا يصلون إليه في غيره..
وهو شهر فيه ليلة القدر، التي جعل الله العمل فيها خيرًا من العمل ألف شهر، قال تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر) ((القدر: 3)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم"..
وهو شهر الصبر؛ فإن الصبر يتجلى ويظهر في أبهى صوره في الصوم؛ ففيه يحبس المسلم نفسه عن شهواتها وغرائزها، ولهذا كان الصوم نصف الصبر، وجزاء الصبر الجنة، قال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) (الزمر: 10)..
وهو شهر الجود والإحسان؛ فكان صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في شهر رمضان..
وهو شهر الدعاء، قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم"، وقال تعالى عقب آيات الصيام: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان" (البقرة: 186).
وهو شهر وحدة الأمة الإسلامية؛ فالمسلمون جميعاً يصبحون كأنهم إخوة في أسرة واحدة، يفطرون في لحظة واحدة، ويمسكون في لحظة واحدة، ويصلون خلف إمام واحد، فيا ليتنا نستشعر تلك المعاني والمفاهيم ومعانيها الحقيقية، ونتحرك بها في حياتنا ونتوحد خلف الأهداف العليا للأمة ومقاصدها العظمى وننبذ خلافاتنا وراء ظهورنا ونوحد كلمتنا وجهودنا ، فنعز كما عز أسلافنا.
شهر القــــــرآن
كان جبريل يدارس رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان ، فللقرآن أكبر الآثر في التربية وتغيير السلوك وفي استجلاب رضا الله سبحانه وتعالى .. ففيه الهدى (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) البقرة:185 ، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) الإسراء . وفيه أعظم العبر وأبلغ المواعظ وقصصه أحسن القصص ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) يوسف . وفيه شفاء للصدور ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) .ولكن هذا الشفاء لا ينتفع به إلا المؤمنون كما قال تعالى ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراًً ) ، ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ ) وقد يسره الله للذكر ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).
فلا يتبقى إذن إلا أن نلتف على مأدبة الرحمن وننهل منها في هذا الشهر الفضيل ونقرأ ونتدبر ونعايش الآيات ونتفاعل معها ونعيش معانيها ونطبقها على أنفسنا لننال ثواب وفضائل القرآن ورمضان، و لنغير من أنفسنا ونفوز برضا ربنا.
كما أن بناء النهضة يبدأ من بناء الإنسان وبناء الإنسان لا يكون ألا من اكتسابه لمنظومة القيم العليا والاخلاق القويمة التي لا خلاف عليها ، والمصدر الوحيد النقي الذي يُعتمد عليه ويُوثق به وفوق امكانيات البشر هو وحي السماء ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)
شهر الإرادة والبناء
ومع نسمات الشهر الفضيل يلوح لنا في الأفق نور الحرية وشعاع الأمل، الذي يمتد طيفه؛ ليغير بعزيمة الإرادة كل طغيان، وبيقين الأمل كل ظلم وإفساد، وينمي فينا روح البناء ، وما ذاك إلا بالإرادة الصادقة والعزيمة الفتية، التي يربيها رمضان في النفوس.
فالتربية قائمة في الأساس على الاستعلاء على مقاومة الشهوات والشيطان. وهذان العنصران يرسخهما رمضان في النفوس ليقومها على طاعة الله . ومن أهم الشهوات التي ينبغي علينا مواجهتها هي شهوة السلطان التي نعاني منها الآن فنجد أن بعض القادة يبيد شعبه ويدمر مقدرات بلاده من أجل شهوة حرام في كرسي مغتصب .
إن رمضان بعد الثورات العربية المباركة له طعم ومذاق خاص، وروح فريدة، ندعو الله أن يديمها علينا، وأن يبارك لنا فيها، ففيه نتنفس عبق الحرية التي حرمنا منها لعقود طويلة، حرمتنا حتى من حق أدائنا لعبادتنا بحرية، وحرمتنا من التمتع بمقاصد الصوم كما نتمنى ونريد، فكانت هناك قيود على الصلاة والتواصل والإفطار والحركة، وهي جميعها قيود كسرها الله وكسر معها أصحابها وجعلهم آية.
فمن أعظم معاني الصوم ومقاصده تحريره الإرادة بكل معانيها حتى ينخلع الفرد من كل الجواذب الأرضية ليسمو ويعلو فوقها حتى يصير عبدًا ربانيًّا، تسمو روحه، ويسمو خلقه، وتسمو أفعاله وتصرفاته، فإذا تغلب الإنسان على جميع الشهوات والملذات ولم يكن لها عليه سبيل ولم يكن لها على قراره وموقفه تأثير؛ فإنه بذلك يخلع عن نفسه كل معوقات التقدم.
وإذا تحررت إرادة الفرد تحررت بالتبعية إرادة الأمة كلها ونهضت وتقدمت، وهذا ما نراه ماثلاً أمامنا الآن، من تحرر أمتنا من كل سلطان خارجي أو طغيان داخلي، ولم يعد هناك سلطان غير إرادة الشعب وقيمه ومثله، وهذا كله نتاج طبيعي لما تعلمنا من صبر في الصوم على الجوع والعطش، وعن المباحات فضلاً عن المحرمات.
إن الأمة كلها الآن أحوج ما تكون للتحلي بقيم ومقاصد شهر رمضان الكريم، وأن تتحلى بخصائصه ومميزاته؛ لمواجهة ما يواجهها من تحديات، ولتتحرر من كل تبعية أو ضعف أو هوان، فالصوم يغرس فينا العزة والكرامة والإباء، فلا يقبل من أمة تتعبد إلى الله بالصوم أن تضعف أو تذل لمعبود كائنًا من كان، أو أن ترهن إرادتها بقرار غيرها، ففي صبرنا على الجوع والعطش والبعد عن المباحات تدريب لنا على استقلال إرادتنا وتقويتها وعدم خضوعها لأحد غير الله سبحانه وتعالى.
إن على الأمة الإسلامية كلها شعوبًا وحكوماتٍ وهيئاتٍ أن تتمثل معاني الصوم وقيمه وتستعين بها على طريق تقدمها، وضرورة وضع كل هذا موضع التنفيذ. وأن نتحلَّى به سلوكًا واضحًا ماثلاً للعيان؛ لننهض بأمتنا وبقومنا ونعطي للعالم كله القدوة والمثل في التطبيق العملي لقيم ومثل الإسلام ، ففي هذا رضا لله سبحانه وتعالى ونهضةً للأمة واستعادةً لمكانتها ودورها واستجلابًا لموجبات نصر الله.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والله أكبر ولله الحمد