(بيت العمر) هو ما نقضي حياتنا في محاولة تأمينه ونتحمَّل لأجله المشاق في الوطن أو الغربة، ولا نقبل فيه إلاَّ بالأفضل حسب استطاعتنا، ومن الناس من يرضى بسقف يؤويه ويعتبره جنة، ومن الناس من لا يملأ عينيه إلا التراب! وقد نرهن عمرنا وعملنا للبنوك حتى نتملك بيتاً، فلا نفرح به بقدر الكدح عليه و نخليه إرثا لمن بعدنا، وصدق سيّدنا عليٌّ بن أبي طالب:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وليس الرَّغبة في التوسع و التملك محجورة، فقد ورد في مأثور الدعاء ((اللهم بارك لي في رزقي، ووسِّع لي في داري)). إلاَّ أنَّ مفهوم السعة هو المختلف عليه، وهو الذي يطبقه أناس بما يرضي الله فيشكرون النعمة، ويؤدّون حقَّها بالزَّكاة والصَّدقة، والقصد في الإنفاق والحرص على الحلال، ويرون أن لا كمال في بيوت الدنيا، وإنَّما الكمال في جنَّة عرضها السَّموات والأرض، بينما يتطاول الحفاة العراة في البنيان بما يدلّل على فساد النفس البشرية والحياة ،ويؤذن باقتراب النهاية!
وفي الوقت الذي تشهد فيه الدول العربية طفرة عمرانية غير مسبوقة حولت مساحاتها إلى كتل إسمنتية، وقلبت مراعيها الخضراء إلى حجارة صماء تحيط بالبشر من الجهات الأربعة حاجبة ضوء الشمس ومجرى الهواء! وفي الوقت الذي أصبح الاستثمار في الإسكان من أنجح وأفضل المشاريع، يقوم المستوطنون الصهاينة، وبالذات الذين يعيشون في القدس وهم الأكثر إرهاباً وتطرّفاً، بهدم جدار في منازلهم أو إحداث حفرة فيه، والهدف من ذلك أن يتذكروا دائماً عند مشاهدته أنَّ ملكهم ومنازلهم وحياتهم كلها ناقصة إلى أن يُبنى الهيكل الذي به فقط ستكتمل سعادتهم واستقرارهم!
قد نقول إنَّهم مجانين ومتطرّفون، ولكنَّهم يدللون أنَّهم متمسكون بقضيتهم، ولو كانت باطلة، وأنهم يسخّرون حياتهم في خدمتها مهما طال أمد تحقيقها!
ونحن العرب نتفنن في زخرفة بيوتنا حتى تصبح بهجة للناظرين وننسى قضايانا وننسى بيوت الله الأسيرة والمنتهكة والمدنسة! ننسى المسجد الأقصى الذي فرَّغه الصهاينة من تحته بالأنفاق فما يمسكه إلاَّ لطف الله، ننساه بينما الصَّهاينة يحضرون حجارة الهيكل وبقرة الهيكل وأدوات الذبح المذهبة، هم يجهزون والعرب يزدادون انغماسا في لهوهم متناسين عمارة بيوت الله المقدسة التي جعلها الله وجهة المستقبل في المعركة الفصل والمحشر والمنشر، وأفاض البركة على كل من تعلق بالمسجد الأقصى وعمل له.
انتقص الصهاينة بيوتهم قصداً حتَّى لا تهنأ نفوسهم بالمعيشة وتركن إلى الجمال والدَّعة، و نحن بيوتنا ألهتنا عن ديننا دنيانا وأنستنا بيت الله المقدس الذي ارتحل له الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم ليسلمنا مقاليده ويثبت وراثتنا له، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((إنَّ مثلي و مثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه و أجمله إلاَّ موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به و يعجبون له و يقولون:هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة و أنا خاتم الأنبياء)).
فهل يحافظ ورثة الرَّسول على إرثه ورسالته ويحفظون الأمانة التي سلَّمها لهم بأن يكونوا اللبنة الأخيرة والأقوى في دعم صمود المسجد الأقصى والتمهيد لاكتمال النصر؟