اليمين المتطرف في أوروبا .. قنبلة تهدِّد التعايش

الرئيسية » بصائر الفكر » اليمين المتطرف في أوروبا .. قنبلة تهدِّد التعايش
alt

لم تكن جريمة السفَّاح النرويجي (أندرس بريفيك) جريمة عادية، بحيث يمكن تجاوزها، أو التغاضي عنها، خصوصاً أنَّها استهدفت من يشتركون معه في الدين والقومية، في جريمة بشعة راح ضحيتها ما يقارب 100 قتيل، لا لذنب ارتكبوه، سوى الانتماء لحزب آخر مغاير، يختلف مع نهجه في بعض البرامج والرؤى السياسية.

وربما كانت هذه الجريمة النكراء، سبباً في تسليط الضوء، على ما تقوم به الأحزاب اليمينية المتطرّفة من تمييز، وعنصرية مقيتة، وتهديد للتعايش السّلمي في أوروبا، وكشف لانحياز السلطات الرسمية فيها ، من حيث تضييق الحريات على المسلمين في بعض بلدانهم، وفي الوقت نفسه، فتح الباب لشنّ حملات العنصرية والإرهاب ضد المسلمين، والقوميات الأخرى، بل وضد الدولة وسكانها الأصليين أنفسهم.
شهد التاريخ الأوروبي، قديماً وحديثاً، نماذج عديدة من العنصريين والمتطرفين، الذين فتكوا بشعوبهم، وأزهقوا ملايين الأرواح، لأجل رغبات شخصية، أو مصالح فئوية
النشأة.. والتطور
ليس اليمين المتطرّف الأوروبي وليد هذه السنة أو هذا القرن، بل هو قديم قدم التاريخ، وقد شهد التاريخ الأوروبي، قديماً وحديثاً، نماذج عديدة من العنصريين والمتطرفين، الذين فتكوا بشعوبهم، وأزهقوا ملايين الأرواح، لأجل رغبات شخصية، أو مصالح فئوية، فأوروبا لم تعرف التعايش مع بعضها البعض منذ القدم، وما تلك الحروب، التي تزخر كتب التاريخ بها، والتي كان آخرها الحربين العالميتين، واللتان راح ضحيتهما عشرات الملايين، إلاَّ تأكيدٌ على هذه الحقيقة، وهي أنَّ أوروبا، عاشت منذ القدم، تحت نير الأفكار اليمينية المتطرّفة، والقومية والعنصرية، المعادية للقريب قبل البعيد. بل إنَّ العالم لم يشهد صراعاً بناء على القوميات والأجناس، والأصل والمنبت، كما شهدته أوروبا، فتاريخها في هذا الأمر أسود قاتم، لا شك فيه.

وبموازاة ذلك، كانت الرؤية اليمينية للتعامل مع مخالفيهم، -المسلمين خصوصاً- رؤية في غاية القسوة، والعدائية، حيث كانوا يفتكون بالمسلمين حين الظفر بهم، ويشيعون فيهم القتل وسفك الدماء، تحت شعار إرضاء الرب، ورفع الصليب، ونشر المسيحية، وما جرائمهم في القدس، ضد المدنيين العزل وقتلهم لعشرات الألوف، أو حتى قتل المسلمين والتنكيل بهم في الاندلس، وجرائم محاكم التفتيش فيها، والحروب الصليبية، إلا أدلة بسيطة من مجموعة كبيرة منها، تؤكد على هذه الحقيقة، أنَّ العداء ضد الآخر، هو حقد أسود دفين، يتحوَّل إلى نموذج قبيح من الإرهاب والتطرف، إذا هيئت الظروف لتحقيقه  وتنفيذ أجنداته.
يزعم أتباع اليمين المتطرف، أن السلطات الرسمية في أوروبا لم تحافظ على كيانهم وشخصيتهم وقيمهم، وذلك في سبيل تحقيق التعايش مع الآخرين من الأجناس والأعراق الأخرى.
أمَّا في وقتنا الحالي، ورغم العداء القديم بين الشعوب الأوروبية، إلاَّ أنَّها استطاعت التوحد ظاهرياً على الأقل، سواء في السياسة الخارجية، أو الأمور الاقتصادية وغيرها، وحاولت أن توفّق بين أهواء مواطنيها، وأن تتناغم سلطاتهم الرسمية مع تطلعاتهم، ولا شك أنها حققت الكثير من المطالب المادية والتطور، إلا أنها – حسب زعم اليمين المتطرّف- لم تحافظ على كيانهم وشخصيتهم وقيمهم، بل إنها ألغت هذه الأمور في سبيل التعايش مع الآخر، والتعامل معه، والقبول بوجوده لتبادل المنفعة.

نظرة جعلت الأحزاب اليمينية تتعلق بشخصيات الماضي، بزعم أنها قد قدست أجناسهم، وحاربت العالم كله للمحافظة على قيمهم الخاصة وتفضيلهم على غيرهم، تماماً كما في ألمانيا على سبيل المثال، حيث يتغنى البعض بأمجاد هتلر النازي، ويطالبون بتحقيق أفكاره، في تميز الجنس الآري عن غيره من الأجناس، وتقسيم الأجناس الأخرى إلى مراتب ودرجات. رغم ما جلبه هتلر من ويلات ودمار على ألمانيا، وقتل للملايين من أبناء شعبه، لتحقيق أفكار ونظريات، أقل ما يقال عنها بأنها شيطانية عدائية للبشر.

تأثير سياسي ..
وممَّا يستدعي الانتباه، هو تنامي هذه الأحزاب، وانتشارها، بل ووجود تأثير لها في الساحة السياسية الأوروبية، ممَّا جعل بعض السلطات الأوروبية، تسير في بعض سياساتها، خصوصاً فيما يتعلق بالمسلمين، وفق ما يريده أصحاب هذه التوجهات، ويدعون إليه.
تشهد الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، ازدياداً في أعداد مناصريها ومؤيديها، وفق ما أظهرته نتائج الانتخابات في بلدانهم.
وذلك لأنَّ اليمين المتطرف، انتقل من فكرة الفردية، إلى جماعية الطرح والرؤية، وإيجاد البرامج الكفيلة لتحقيق أطرهم الفكرية، عبر إنشاء الأحزاب السياسية، والتي نالت إعجاب جزء من الناخبين الأوروبيين، فمثلاً في هنغاريا يعتبر حزب (جوبك) ثالث أضخم حزب سياسي فيها، بعد أن ضاعف مقاعده في البرلمان في الانتخابات الأخيرة. أما في هولندا، فيعتبر حزب (الحرية) اليميني، ثالث أكبر حزب فيها، و في فرنسا فقد كان فوز (الجبهة الوطنية العنصرية) بزعامة اليميني (جان لوبان) في بعض المدن، وحصولها على 17% من أصوات الناخبين، عاملاً من عوامل انتشار الفكر اليميني فيها، الأمر الذي جعل (لوبان) ثالث المرشحين للفوز في انتخابات الرئاسة الفرنسية لعام 2012. وكذا الحال في السويد، وإيطاليا، والدنمارك والنمسا، وسلوفاكيا وبلغاريا، وغيرها مما يزيد من قوة تأثيره على المجتمع الأوروبي، وخصوصاً فئة الشباب، التي تتميز بالاندفاع والحماسة، كما أن الشباب هم الأساس الذين يتم من خلالهم تحقيق البرامج والأهداف لهذه الأحزاب.

ويمكن إرجاع هذه الأسباب لتنامي الأحزاب اليمينية لأمور عديدة منها:
1-    تناغم أفكار وأطروحات هذه الأحزاب، مع التاريخ القديم لأوروبا، عبر التركيز على أفكار الشخصيات التي أثرت في تاريخ بلدانهم، وخاضت الحروب للمجد والسيطرة والتسلط على الآخرين. للحفاظ على القومية وتميّزها، وبسط سيطرتها على الآخرين.
2-    استخدام الخطاب الديني، واستغلال الكنسية في نشر نظرية المؤامرة، وخصوصاً من الإسلام والمسلمين، أو الأسيويين والأتراك وغيرهم، عبر التحذير من ضياع الجنس الأوروبي، وسط الزيادة العددية للأجناس والقوميات الأخرى، وحصولهم على جنسيات الدولة التي ينتمون لها.
3-    وجود سقف من الحرية يسمح لهذه الأفكار بالانتشار، حيث لا تعترض الدولة، على أي نشاط يمكن أن يمس بأمن المواطنين الآخرين، إلاَّ في حالات نادرة، مستغلين انشغالها، في تتبع الإسلاميين، ومصادرة حرياتهم، تحت حجة محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه.
4-    انتشار الفساد بين أوساط الطبقة السياسية من اليساريين وغيرهم، الأمر الذي أسقط شعبيتهم، وشعبية أحزابهم مما حدا بالتفاف بعض الأوروبيين حول برامج اليمين المتطرف، بحيث يرون فيها مخرجاً لما تتعرض له بلادهم من أزمات.
5-    وجود الكثير من المواقف الرسمية التي تتوافق مع ما يدعو إليه اليمين المتطرِّف، خصوصاً في ظل انتشار المسيحية المتصهينة، والدعم اللامحدود للكيان الصهيوني، وصبغ الحروب وغيرها بالصبغة الدينية، ناهيك عن تناغم موقف الكنيسة أو على الأقل بعض رجال الدين النصراني مع ما يطلبه اليمينيون، وتزعمهم لبرامجهم وأحزابهم، وهو يعيد تلك الصورة القديمة التي كانوا فيها يسعرون الحروب ويؤججونها.

العلاقة مع الصهاينة
ترك سفاح النرويج (بريفيك) وثيقة مكونة من 1500 صفحة، ورد ذكر (إسرائيل) فيها 300 مرة، كلها في إطار إيجابيليست العلاقة بين اليمين المتطرّف، والكيان الصهيوني (إسرائيل) علاقة سطحية أو عابرة، بل هي علاقة قوية، تنطلق من قواعد مشتركة، وأيدولوجيات متقاربة، وقد مثلت جريمة سفاح النرويج قبل أيام، مدى هذا التأثير المتبادل بينهما.

فقبل أيام أشارت إحدى الصحف الإسرائيلية، إلى أنَّ السفاح (بريفيك) أبدى تأييداً وحماساً (لإسرائيل)، مقابل كراهية شديدة للمسلمين؛ حيث ترك القاتل وثيقة مكوَّنة من نحو 1500 صفحة، ورد فيها اسم (إسرائيل) ما لا يقل عن 300 مرّة، كلّها في إطار إيجابي – على حد تعبيرها- حيث امتدح سياستها لأنها لم تمنح السكان المسلمين الذين يعيشون تحت سيطرتها حقوق المواطنة خلافاً لما تفعله أوروبا.

كما أن (بريفيك) كان متأثراً بالكثير من قادة اليمين ومفكريهم، ومنهم المفكر الصهيوني الأميركي (دانيل بايبس) الذي يكتب بجريدة (جيروزاليم بوست الإسرائيلية) والعضو بمؤسسة (منتدى الشرق الأوسط) المعادي للقضية الفلسطينية.

لذا نجد أنَّ العلاقة بين اليمين المتطرف الأوروبي، والكيان الصهيوني تقوم على علاقة متبادلة، قائمة على تبادل الرؤى والأفكار التي تستهدف المسلمين والإسلام بشكل رئيس، عبر تشويه صورته، والتمييز ضد المسلمين، والاعتداء عليهم، ودعم الكيان الصهيوني في جميع المواقف، والضغط على السلطات الرسمية –المتواطئة أصلاً مع الكيان الصهيوني- لإصدار مواقف أكثر دعماًُ، ومحاربة من يعاديها، أو يفضح جرائمها، تماماً كما فعل اليمين في بريطانيا، ضد الشيخ رائد صلاح، حينما اعتقلته السلطات البريطانية، قبل أسابيع قليلة ماضية، رغم دخوله أراضيها بطريقة قانونية.

مستقبل غامض ..
إنَّ المسيحية المتصهينة اليمينية، هي خطر على أوروبا، قبل أن تكون خطراً على غيرها، وتحمل في جعبتها الكثير من الدمار والخراب، عبر الاعتماد على مبدأ المؤامرة والصدام مع الآخر، وعدم التعايش معه.
إنَّ اليمين المتطرّف يجرّ أوروبا بشكل عام، لصراع داخلي بين أفراده، خصوصاً كونه يجيز استهداف من يشترك معه في الدين، طالما أنَّه يختلف معه في الجنس والرؤية، بل إنَّ عملية النرويج الإرهابية الأخيرة، تؤكد على تطور الفكر اليميني لاستباحة دماء من يشتركون معه في الجنس والقومية والدين، بسبب الاختلاف في المنهج والفكر، وهو ما يعيد الذاكرة، لتستذكر أحداث ولاية أوكلاهوما الأمريكية، حيث راح ضحية انفجار نفذه إرهابي يميني أمريكي متطرف، ما يقارب 170 شخصاً، عام 1995.

إنَّ المسيحية المتصهينة اليمينية، هي خطر على أوروبا، قبل أن تكون خطراً على غيرها، وتحمل في جعبتها الكثير من الدمار والخراب، عبر الاعتماد على مبدأ المؤامرة والصدام مع الآخر، وعدم التعايش معه، وهو ما يفتح على أوروبا موجات من العداء الداخلية والخارجية، وعلى الأقل، فإنَّ سياسات أوروبا، المتناغمة مع اليمين المتطرف إلى حد ما، جعلت هناك الكثير من العداء لهم، سواء فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني خصوصاً، والقضايا الإسلامية الأخرى عموماً.

معلومات الموضوع

الوسوم

  • أوروبا
  • اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
    كاتب فلسطيني، متخصص في الشريعة الإسلامية والسياسة، مهتم بالإعلام والتربية والتعليم.

    شاهد أيضاً

    إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

    الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …