استراتيجيات تربوية(4): بالقدوة نربي

الرئيسية » بصائر للأسرة والمرأة » استراتيجيات تربوية(4): بالقدوة نربي
alt

قال الحسن البصري رحمه الله: (فِعلُ رجلٍ في ألف رجل خيرٌ من قولِ ألف رجلٍ في رجل)
فالفعل أبلغ من القول، ولا فائدة من الأقوال والإملاءات إن لم تصحبها أفعال تترجمها، بل قد لا نحتاج للأقوال في كثير من المواقف لو توفرت الأفعال، فهذا نبيّنا الكريم محمَّد عليه أفضل الصَّلاة وأزكى التسليم في صلح الحديبية، وبعد أن فرغ من كتابة الصلح مع قريش يأمر أصحابه رضوان الله عليهم أن ينحروا ثمَّ يحلقوا للتحلّل من عمرتهم، فقد حُصروا ومُنعوا من البيت، فلم يقم منهم أحد مع أنَّه كرَّر الأمر عليهم ثلاث مرَّات، وإذا به يدخل على زوجته أم سلمة -رضي الله عنها- يستشيرها في الأمر، فأشارت عليه أن يخرج إليهم دون أن يكلّمهم حتَّى ينحر بُدنه ويحلق رأسه، فقام فخرج ونحر وحلق دون أيّ كلمة، فلمَّا رأى النَّاسُ منه ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق رؤوس بعض، وهم يتنافسون في تطبيق فعله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وهاهو –عليه الصَّلاة والسَّلام- يضرب لنا مثلاً يحتذى في القيادة الحقَّة؛ ففي غزوة الخندق نراه يشارك أصحابه في الحفر ونقل التراب، بل ويربط على بطنه الشَّريف حجرين من شدَّة الجوع وليس حجراً واحداً كما فعل أصحابه الكرام.. علَّمهم الصَّلاة وأركانها وواجباتها، ثمَّ أشار إليهم كما جاء في الحديث الشريف عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم:  ((صلُّوا كما رأيتموني أصلّي، وإذا حضرت الصَّلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم))  (متفق عليه)، هكذا كان –عليه الصَّلاة والسَّلام- مثالاً عملياً لمن حوله ولمن يجيء بعده فقد بُعث معلّماً ومربّياً وقدوة للنَّاس أجمعين، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسولِ اللهِ أسوةٌ حسنة} {الأحزاب: 21}، هو قدوة وأسوة لجميع فئات وشرائح المجتمع وفي مناحي الحياة كافة.
فقد وضع الله -عزَّ وجل- في شخصيته الصُّورة الكاملة للمنهج الإسلامي والصّورة الحيَّة الخالدة على مدار التاريخ، فلم يؤخذ عليه أنَّه قال شيئا ولم يطبقه، فقد كان بحق قدوة في الصَّبر والعفو والشَّجاعة والرَّحمة واللِّين والسَّخاء والوَرَع والزُّهد والاستقامة والقيادة.. وما إلى ذلك من مكارم الأخلاق وفضائل العبادات ومحاسن الآداب وجميل الأفعال، فحريّ بنا أن نتأسى به ونقتدي بفعاله فالتأسي مطلب شرعي ومَحمدة لصاحبه خاصة إذا كان يقتدي بمن هم أهل لذلك كالأنبياء والصَّالحين، وكل من سنّ سنة في الإسلام حسنة، وقد ذمَّ عزَّ وجل الاقتداء بأهل الضَّلالة قال تعالى: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قريةٍ من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مقتدون} {الزخرف:23}.فلا بد إذن من أن نهتم جيّداً بتجسيد جمالية السلوك الإسلامي والخلق الراقي لينشأ الطفل على الخير والصلاح..

لنكن قدوة...
لنكن قدوة ليس فقط في العبادات والأخلاق والمعاملات، بل أيضاً في الآداب وفي كلِّ حركة وسَكَنة، أدب الجلوس على المائدة وأدب استقبال الضيوف وأدب اللقاء مع العائلة والأقارب وأدب الحوار.. إلخ، يقول صاحب للإمام أحمد بن حنبل عن نفسه: صحبتُ الإمام أحمد تسعة عشرعاماً، ثمانية عشر عاما تعلَّمتُ فيها الأدب وعاماً واحداً تعلمت فيه العلم ليتني قضيتها كلها في الأدب. كان يحضر للإمام أحمد 5000 طالب ليأخذوا عنه العلم، رُوي أن 500 منهم يكتبون و4500 كانوا يتعلَّمون من سمْته وأدبه وفعله وخلقه.
الأمر ليس بالهيّن وعلى الآباء يقع العبء الأكبر، فلابد من إصلاح أنفسهم أولاً، ثمَّ تربية الأبناء لكي نتحاشى أيَّ خطأ أو خلل يعتري هذه المسيرة الرَّاقية، فعلى الوالدين أن يفهما أنَّ الطفل مفطور على حبّ التقليد وأحبّ شيء عنده، بل وأول شيء يبدأ به حياته تقليد أبويه، فانظر لنفسك قبل أن تبدأ لأنَّك حينما تكون قدوة صالحة لأولادك ستقطع على نفسك ثلاثة أرباع الطريق إلى تربيتهم وتأديبهم، أمَّا إن كنت قدوة غير صالحة –لا قدر الله- فستسقط من أعينهم وسيبحثوا لهم عن قدوة غيرك من أهل الفجور والانحراف أو أن يقعوا في حبال الشيطان فيحْيَوا حياة الضَّالين الفاسدين، لأنَّهم بلا قدوة توجههم وتربيهم التَّربية الصَّالحة، فمن هنا كانت الضَّرورة حتمية بالاهتمام بسلوكنا وأقوالنا أمامهم فهم يلتقطون بلا حدود فالطفل يُخزِّن ما يسمع ويرى في عقله اللاواعي الذي سيصقل شخصيته فيما بعد ونلفت الانتباه هنا بأنَّ مساحة عقله اللاواعي أكبر بكثير من مساحة عقله الواعي وهو كطفل صغير لا يستطيع كالكبار فلْترة المعلومات أو التّصرّفات التي يستقبلها أو إدخال ما يجب وطرد ما لا يجب، لذلك فالطفل غالباَ ما يوصف أنَّه كالإسفنجة أينما وضع يمتص من المحيط ((فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه))، فهو يحتاج دائماً إلى من يفلتر له، فلا بد إذن من أن نهتم جيّداً بتجسيد جمالية السلوك الإسلامي والخلق الراقي لينشأ الطفل على الخير والصلاح، في رواية سمعتها أن أحدهم خبير في صناعة الشخصيات قال احضروا لي عشرة مواليد وسأربّي أو أجعل من كل واحد شخصية، فهذا دكتور وذاك سارق وآخر سياسي وذاك مفسد.. وهكذا حسب البيئة التي سيُنشّأ فيها وما يُعرض أمامه من تصرفات وأفعال وتوجيهات.
إذن، لا تطمح بأن يكون ابنك صالحاً إن لم تكن صالحاً، ولا تطمح بأن يكون ابنك عفيفاً إن لم تكن عفيفاً، أو أن يكون صادقاً إن لم تكن صادقاً..
 فكّر ألف مرة بل مليون مرَّة قبل أن تكذب وقبل أن تقرّر سلوكاً خاطئاً ، أو تفعل فعلاً مخالفاً للشَّرع أو تتقوّل بالشائن من القول، أنت مراقب من الله تعالى أولاً وممَّن حولك وممَّن ترعاهم أو تحيا بينهم في البيت في الشارع في العمل في المشفى في المدرسة في المسجد أو في أي مكان ترتاده..
فلا تأمر بالصِّدق وأنت تكذب، لا تحاضر عن الأمانة وأنت تخون، تطلب من ابنك أن يحترم إخوته الكبار وأنت لا تحترم أخوتك، تطلبين منه أن يكون مثالاً في العطاء والتضحية والإيثار وأنتِ آخر من يقدم ولو حتى في محيط أسرتك، وهذا تاجر يقسم أيمانا مغلّظة أمام ابنه للمشتري بأنَّ القطعة التي يبيعها له أصلية وابنه يعلم علم يقين بأنَّها غير ذلك، وأنت أيها المعلِّم توبخ الطلاب على التدخين وهم يعلمون أنك تدخن، وذاك المربّي الفاضل! يمزح مع أصدقائه مزاحاً رخيصاً على مرأى ومسمع من الأولاد، وانظروا إلى ذلك القائد الذي يأمر وينهى وهو قاطن في برجه العاجي ولا يشارك فريقه في شيء ثمَّ يصرخ ويزمجر ويزبد عند الخطأ، وهذا المدير المتعجرف يتأخر عن عمله بحجَّة أنَّه مدير ويُلقي اللوم بل والعقوبات على المتأخرين.. من هنا كانت المشكلة، فلو أنّا تخلّقنا بخلق الإسلام واقتدينا بأكرم الخلق نبيّنا –عليه الصَّلاة والسَّلام- لما كان ذلك حالنا.
أين نحن من أبنائنا وبناتنا وهم أبناء الإسلام!! وكيف هذا حالنا وقدوتنا هو معلّم الأمَّة ومربيها محمَّد –عليه الصّلاة والسَّلام-! كيف ذلك ونحن من نشر الإسلام بالقدوة الحسنة في مشارق الأرض ومغاربها، فتح الفاتحون البلدان والأمصار وهم يتمثلون بالخلق الحسن، تنقّل تجارنا ببضائعهم بيعاً وشراءً وهم يمثلون القدوة الحسنة في التعامل والخلق والأمانة فأحبهم الناس وأسلموا، لأنَّ الفطرة الإنسانية تحب الخير والصَّلاح والخلق الحسن، والتميز الخلقي المتمثل بالقدوة الصَّالحة هو من أكبر العوامل في التأثير على القلوب والنفوس ومن أعظم الأسباب في نشر الإسلام، وفي هداية البشر إلى سبيل الإيمان.
                             لاتنهَ عن خلقٍ وتأتي مثله       عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
فالقضية إذن قضية صدق مع الذَّات، لأنَّ السلوك تعبير عن الذَّات وعن الداخل وليس عن ظروف خارجية، وربما يكون في هذا المعنى سرّ حياة قدوتنا المؤثرة.
شبابنا يا أحبتي أمانةٌ في أعناقكم وهم أحوج ما يكونوا إلى القدوة الصَّالحة، ترجم أقوالك إلى سلوك لتكن في أعلى مستوى من القدوة الحسنة، وحتى تكون تربيتك فعالة وناجحة ومثمرة، وضع دائماً نصْب عينيك أنَّ لسان الحال أبلغ من لسان المقال، فالتربية بالقدوة وهو ما يسمَّى بالتَّربية الصَّامتة هي من أرقى أساليب التربية وأفضلها، ومتى فقدها المربِّي فقد الورقة الرَّابحة في منهج تربيته لأولاده، فهي أفعل الوسائل التربوية جميعاً وأقربها للنَّجاح.
 فضاعفوا من جهودكم في هذا الأسلوب التربوي الجميل، وأصلِحوا من أنفسكم واجعلوا من بيوتكم جنةً لأطفالكم وشبابكم ظلالها الوارفة أوراقٌ من الحبّ والوّد والثقة والصِّدق، لتصبح بيوتكم هي المأوى والملجأ الحقيقي لأبنائكم، خذوا بأيديهم إلى الله وكونوا لهم نموذجاً راقياً في الصَّلاح والتَّقوى والخلق والأدب، في الختام نذكّر بقوله -عز وجل-: {يا أيها الّذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون، كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون}، {الصف: 2-3}.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

alt

إقرار أول قانون للحماية من العنف المنزلي في السعودية

قال مسؤول في مجال حقوق الإنسان إن السعودية أقرت قانونا مهماً يهدف إلى حماية النساء …