غابت الزَّهرة ،،، وما زال شذاها يفوح في الآفاق عبقاً... وتقف حروف الكلمات خَجْلى، وتتهادى العبارات حيرى أمام ذلك الطود الأشم .
لقد كثرت محاسن خصالها ، وعظم منها جميل الفعال .. لقد كانت علماً من أعلام النساء في عصرنا الحالي.. نحسبها والله حسيبها ولا نزكيها على الله تعالى
وصدق الشاعر :
ولو كانَ النّساءُ كمثلِ هذي *** لفضَّلت النّساءُ على الرِّجالِ
فما التأنيثُ لاسمِ الشَّمسِ عيبٌ *** ولا التذكيرُ فخرٌ للهِلالِ
د.نجوى عبد الله سلطان رحمها الله تعالى وأسكنها فسيح جناته، المعروفة في الكويت بـ"أم معاذ"، قبض الله روحها إليه ، بعد صلاة فجر الأربعاء الموافق 28/7/2010
وهي حتَّى هذه اللحظة وعلى مدار عام كامل ساكنة في أعماق من عرفوها .. يتذكرونها في كل يوم يمر عليهم... كيف لا؟؟ وهي التي تمثلت ما روي عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ لله عباداً اختصهم بقضاء حوائج الناس، حببهم إلى الخير، وحبب الخير إليهم، هم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة )). (رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج مرسلاً، وهو حديث ضعيف).
لقد كان لها في كلِّ بابِ خير يدٌ، ومفتاح.. معطاءة بلا توقف ... لم يطرق بابها يوماً محتاج، أو طالب خير، إلاَّ بذلت الجهد لمنحه إيَّاه، حتَّى لا يخرج إلاَّ مرتاحَ النفس هانِئ البال، مقضيَّ الحاجة، قد حاز من خير الدّنيا أو الآخرة.
كنت تشعر بصدقها في البذل والعطاء سعيدة بذلك، فرحة به، لأنَّها تعلم يقيناً أنَّه يقع في يد ربِّ العالمين أولاً.
كانت من أوائل من افتتح حلقات لتحفيظ القرآن الكريم، متحمِّلة في ذلك الكثير من المشاق، تقول إحدى بناتها اللواتي تربين على يديها الكريمتين: (كانت أم معاذ تدرسنا القرآن، بكل همَّة، وتفانٍ، وإخلاص والله لا يوصف، تكاد تقول إنَّ هذا الفعل مستحيل من بشر في هذا الزَّمن، كانت بعد الحلقة تقوم بإيصالنا لمنازلنا، وهذا ليس من واجبها أبدًا، نحن وبنات الجيران! بسيارتها، لم تقل لست مكلفة بذلك، أو ادفعوا مقابل البنزين!! كانت فرحة وهي تقوم بذلك.
حرصت على الاستفادة من كلِّ ثانية في حياتها:كانت تكره الفراغ ، بل ربما لم تعرف حياتها له معنى، فقد كان فراغها ولهوها تقضيه في البذل والتعب ، وقد أرادت أن يعمَّ هذا الخير بنات المسلمين ، فكان لها فضل السَّبق في إنشاء أول ناد للبنات، والذي قامت من خلاله بتعليمهن الكثير ممَّا يفيدهن في أمور دينهن ودنياهن ، وساعدتهن على معرفة قيمة الحياة ، وتحديد أهدافهن .هؤلاء البنات صرن الآن أمهات يحتذين خطوات أم معاذ .. وما زال ركب خريجات هذه الأندية يتوالى عبر السنين ... ليثقل ميزان حسناتها .. ويصبح صدقة جارية لها بعد موتها ...
عملت طبيبة أسنان بوزارة الصِّحة في الكويت، إضافة إلى مجال الصحة المدرسية، فأبدعت في مجالها أيّما إبداع، وبذلت الغالي والرَّخيص لذلك، فكانت تشتري كلَّ جديد يخص مجال عملها من أيِّ مكان في العالم، مهما غلا ثمنه، كلّ هذا من مالها الخاص... كم من أطفال يتذكرونك، ويرفعون أيديهم بالدّعاء لك ليل نهار... لقد تركت في ذاكرتهم بصمات لا تمحى.
أحبت الأطفال كثيراً، فكانوا شغلها الشاغل...لأنَّها كانت تراهم جيل المستقبل الباسم ، فأنشأت حضانة حتّى تكون ينابيع للخير، ورفعت شعارها ( معاً نعد رواحل الغد) وذلك انطلاقاً من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)). (رواه البخاري ومسلم).
وضعت في هذه الحضانة كلَّ ما يطيب للصّغار التعلم به ومنه .. بقي أثرها محفوراً في روح وعقل كل طفل لامست قدماه أرض الحضانة.
ثمَّ أنشأت مركزاً وكان أول ملتقى فيه للفتيات تحت عنوان ( كوامن الدُّرر)، وما أدراك ما هو ؟؟ اسأل من حضروه، أساتذة جامعة فضلاء، ومدربين على أعلى مستويات الخبرة، وأنشطة متميزة ، كل ذلك في فندق راق ...لأجل بناتها الحبيبات .. اللواتي رأت المستقبل بعيونهن.
لم يكن لدى روحها الوثابة الكثير من الوقت للمباحات ولكنَّها كانت تحبّ نشيداً .. تردِّد الكثير من كلماته ، كلما سمعتُه وجدتها متمثلة في حروفه :
ما زلت أبحث في وجوه النَّاس عن بعض الرجال
عن عصبة يقفون في الأزمات كالشم الجبال
فإذا تكلمت الشفاه سمعت ميزان المقال
وإذا تحرّكت الرّجال رأيت أفعال الرّجال
أمَّا إذا سكتوا فأنظار لها وقع النبال
يسعون دوماً للعلا، بل دائما نحو الكمال
يصلون للغايات لو كانت على بعد المحال
ويحققون مفاخرا كانت خيالا في خيال
همم لهم تسمو إذا ما رامها نجم الشمال
لم يكن طريقها مفروشًا بالورود والريحان، بل لقد واجهت الكثير الكثير – ما الله به عليم- من المشاكل والمصاعب التي تفت في عضد الرِّجال، ولكن أنّى لهذه الروح الوثَّابة أن تقف، لقد كانت همتها تذلل الصِّعاب بتوفيق من الرحمن.
لقد أتعبت من وراءك يا أم معاذ
تقبلك الله في عليين، وجمعنا بك يا حبيبة القلوب أجمعين.. تحت ظل عرش الرَّحمن الرَّحيم.
إخوانا على سرر متقابلين.
لقد مررت يوماً من هنا .. وتركت نعم الأثر...
لن ننساك ... فسيبقى أريجُك ِفي الآفاق عَطِر...
قال عنها محبُّوها:
• أم معاذ.. إنسانة نادر نصادفها بحياتنا … مميّزة بكلِّ ما تحمل الكلمة من معنى.
• رحلت عن دنيانا فاكهة الدَّعوة وريحانتها، وبرحيلها فقدنا علمًا من أعلام العمل الخيري ورمزاً كبيراً نادرَ التكرار عبر الأزمان المتقاربة.
• شخصية نذرت حياتها لله، وحذفت من قاموسها الفشل واليأس.
• كانت كحامل المسك؛ إمَّا أن تبتاع منه، وإمَّا أن يُحذيك، وإمَّا أن تجد منه ريحاً طيّبة.
• من حبِّي لها و معرفتي بصلاحها، كنت قد كتبتها في وصيتي أن تحضر غسلي، فمن لي الآن يا أعزَّ من أحببت و عرفت.
• لقد كنت مطمئناً على أولادي في روضتها، أتابع ما تفعله وتبتكره لإسعاد الأطفال، وأنا في غاية السَّعادة أنَّ لأولادي نصيباً في أن يتربوا تحت رعايتها،لقد خسرنا صرحاً شامخاً من صروح الدَّعوة إلى الله، وداعية قلَّ أن يجود الزَّمان بمثلها.
• امرأة بمئة رجل من العاملين النشيطين، وليس من الخاملين.
• حين تقارن الوقت والمال تقول: المال نستطيع أن نعوِّضه أو نقترضه من الآخرين، وإنَّما الوقت لا يعوَّض ولا يمكن اقتراضه.
• كانت رحمها الله ” ملكة التفوق الخلقي ” في زمن الفتن الذي عزَّ فيه الثبات على الأخلاق …
• كانت ملكة العطاء اللا محدود وبلا أي مقابل في زمن الشح والأثرة والأنانية وحبّ الذَّات، تعطي عطاء معنويا ونفسياً وروحياً وعاطفياً لكلٍّ حسب حاجته .. كانت تحب الصَّدقة .. وتعطي عطاءَ مَنْ لا يخشى الفقر.
• كانت أول من ابتكرت فكرة تأجير المنتزهات الترفيهية والشواطئ السياحية لليوم الكامل للنساء فقط ووجدت صعوبات كبيرة ومعارضة شديدة من الإدارات، لذلك حتى أنها كانت تدفع إيجار ذلك اليوم كاملاً من جيبها الخاص، دون أن تحسبها هل سيأتي بمردود مالي؟