ليس هناك من وظيفة لها دور في التوجيه والتربية، وزيادة الإيمان والوعي الشَّرعي والفكري، وتحقيق التكافل المجتمعي، كما هو في حال إمام وخطيب المسجد.
فرغم انتشار الوسائل الإعلامية المختلفة، من إذاعات، وفضائيات، ومواقع انترنت، وغيرها، إلاَّ أننا يمكن أن نعدّها نوعاً من أنواع الانتشار الأفقي، والذي يصل إلى أكبر عدد من الناس في جميع البلاد والأمصار.
إلاَّ أنَّ الانتشار العمودي، وهو ما يستهدف الفرد بذاته، ويرتقي به إيمانياً، وفكرياً، واجتماعياً، وغير ذلك يكون بالتواصل الشخصي، والذي له الدور الأكبر، في تكوين الدافعية الدعوية للفرد المسلم، وهذا يتحقق على يد أفراد كثر، أهمهم وأبرزهم إمام المسجد وخطيبه.
يزداد تأثير الإمام، في شهر رمضان خصوصاً، في ظل زيادة الإقبال على المساجد، وإطالة المكوث فيها، بين صلاة وقيام واعتكاف
ويزداد تأثير الإمام، في شهر رمضان خصوصاً، في ظل زيادة الإقبال على المساجد، وإطالة المكوث فيها، بين صلاة وقيام واعتكاف، ممَّا يجعل من كلماته ومواقفه بوصلة لمن يستمعون له، فتنعكس آراؤه على مواقف وأفكار من يصلون خلفه، وبذلك يحقق التأثير المطلوب منه، وفلسفة الوظيفة التي كُلف بها.
إلاَّ أنَّه في أيامنا.. نجد الكثير من الأئمَّة لا يحسنون توجيه الأمَّة لما فيه خيرها ومصلحتها، ذلك أنَّهم يعانون من ضعف مستشر في جميع الجوانب، في الفقه، ومعالجة الواقع، بل وفي قراءة القرآن، فترى أحدهم يكثر من اللحن الجلي في قراءته للقرآن، ممَّا ينعكس سلباً على المأمومين، فيفقدوا ثقتهم بالإمام، فيهجروا مسجدهم، أو يصبح التعامل مع المسجد، كنوع من الوظيفة فقط، أداء للصلاة بشكل روتيني، دون تفاعل أو استفادة مما يقوله الإمام.
السلف وإمامة المسجد..
كان الإمام موجّها روحياً، ومنظراً فكرياً، ومصلحاً اجتماعياً، يعالج قضايا الأمَّة، حتى ينير للمسلمين الطريق، ويحقِّق حاكمية التشريع وسيادته في نفوسهم، ويؤصّل فيهم مبدأ المحاسبة والمراقبة الذاتية.
لقد أدرك المسلمون، منذ عصر النبوة أهمية هذا المكان، في توجيه المسلمين، وتربيتهم التربية الربانية الرَّاشدة، فقد مارس النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم هذا الأمر، ثمَّ مارسه الخلفاء الرَّاشدون - رضي الله عنهم- من بعده، وهذا يدلِّل على أنَّ الإمامة لم يكن يتصدّى لها إلاَّ من جمع بين العلم الشرعي، وعلم الواقع، مع محاسن الأخلاق وفضائل الصفات؛ فالإمام قائد لمن يؤمّهم، ولهذا كانت الأمَّة أمّة ربانية، عزيزة حرَّة، لا ترضى بالضَّيم والظلم، فيتكافل أفرادها، بحيث يحقّقون مفهوم المجتمع المسلم بصوره وأشكاله كافة.
وكان الإمام موجّها روحياً، ومنظراً فكرياً، ومصلحاً اجتماعياً، يعالج قضايا الأمَّة، حتى ينير للمسلمين الطريق، ويحقِّق حاكمية التشريع وسيادته في نفوسهم قبل تطبيقها على أرض الواقع، ويؤصّل فيهم مبدأ المحاسبة والمراقبة الذاتية، فيكونوا على طريق الحق ثابتين، ولأوامر الله عزّ وجل وقّافين ملتزمين.
نماذج مضيئة
كثيرة هي النماذج التي ضرب فيها أصحابها أروع الأمثلة على الأئمّة القادة، والذين حرَّكوا شعوبهم نحو التغيير وتحقيق العزة والرفعة، ونقتصر على اثنين من هؤلاء الأحرار قادة العزة.. وهما الإمام العزّ بن عبد السّلام، والشيخ عزّ الدين القسَّام.
العزّ بن عبد السَّلام .. بائع السَّلاطين
لم يكن العزّ بن عبد السّلام رحمه الله، الفقيه الأصولي، يغفل عمّا كُلف به من مهمة، وهي إرشاد الأمَّة لما فيه خيرها في الدنيا والآخرة، ورفض الظلم والخنوع لكلِّ متجبر ومفسد. ولهذا.. كان منبره الذي يقف عليه مرشداً للمسلمين، ومبيّناً لهم أحكام دينهم، منارة حرية وعزّة ورفعة للأمَّة.
كان العزّ بن عبد السلام خطيباً وإماماً مؤثراً، وقائداً موجهاً، وقّافاً على الحق وما يتطلبه، ومحارباً للمنكر وما قاربه، ورافضاً للخنوع والذلة، والاستكانة والهوان.
ومن أبرز مواقفه –رحمه الله- حينما تحالف الملك الصَّالح إسماعيل مع الصليبيين في حربه ضد أخيه، حيث أعطاهم بعض الحصون، وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السّلاح والتزوّد بالطعام وغيره. الأمر الذي أدّى إلى استنكار العزّ بن عبد السلام ورفضه، حيث صعد المنبر وخطب في الناس خطبة عصماء، فأفتى بحُرمة بيع السلاح للفرنجة، وبحُرمة الصلح معهم، وقال في آخر خطبته «اللهمّ أبرم أمراً رشداً لهذه الأمَّة، يعزّ فيه أهل طاعتك، ويذلّ فيه أهل معصيتك»، ثم نزل من المنبر دون الدّعاء للحاكم الصالح إسماعيل (كعادة خطباء الجمعة)، فاعتبِر الملك ذلك عصيانا وشقّا لعصا طاعته، فغضب علي العزّ وسجنه. فلما تأثّر الناس، واضطرب أمرهم، أخرجه الملك من سجنه وأمر بإبعاده عن الخطابة في الجوامع. فترك العزّ الشام وسافر إلى مصر.
ولم يكتف العزّ رحمه الله بهذا الموقف في الشام، بل إنّه في مصر وقت حكم المماليك وهم عبيد في الأصل، لا يحق لهم ما يحق للأحرار في بعض الأمور، فرفض كثيراً من تصرفاتهم، وحينما حاول السلطان التدخل في شأن القضاء الذي كان العز مسؤولاً عنه، رفض العز بن عبد السلام ذلك، ثم جمع أمتعته وضعها على حماره، وأراد الخروج من مصر، ونظراً لتأثيره في الناس، حيث كان خطيباً عليهم، تجمع أهل مصر حوله – فيما يروي المؤرخون- واستعد العلماء والمصلحون الرحيل معه، مما جعل الملك يترضاه ويطلب منه العودة.
وهكذا كان العزّ بن عبد السلام الخطيب والإمام المؤثر، والقائد الموجه، الوقّاف على الحق وما يتطلبه، والمحارب للمنكر وما قاربه، والرافض للخنوع والذلة، والاستكانة والهوان. والذي كان مصدراً من مصادر وعي الأمة ووقوفها مع الحق وضد الظلم والطغيان.
عزّ الدين القسّام .. العالم الشَّهيد
أمَّا الشيخ عزّ الدين القسَّام، العالم الدَّاعية، والذي عاش مرحلة سقوط الخلافة التي أظلت الأمة قروناً عديدة، وشهد جرائم الإنجليز والصهاينة في سرقة فلسطين من أبنائها، وتهويدها واغتصاب مقدساتها، فإنَّه حينما قدم إلى حيفا، لم يغفل عن القضية الأساسية، وهي أنَّ أرض فلسطين تستباح، وأنَّ اليهود يهاجرون إليها ليحلوا محل أهلها، فيدنسوا أرضها، وأنَّ الواجب على المسلمين هو الدفاع عنها، وعدم الخوض في الأمور الهامشية التي تغفلهم عن الأهداف الرَّئيسة العليا.
جعل الشيخ عزّ الدين القسَّام منبره شمساً تعرّف الناس على الحقيقة، وتؤجّج فيهم فهم فقه القضية، ومعرفة أبعادها،
جعل الشيخ عزّ الدين القسَّام منبره شمساً تعرّف الناس على الحقيقة، وتؤجّج فيهم فهم فقه القضية، ومعرفة أبعادها، فالتف النَّاس حوله، ليؤيّدوا فكرته، ويشعلوا بعد استشهاده ثورة عارمة اجتاحت كلّ فلسطين، جعلت منه رمزاً للفلسطينيين حتّى يومنا الحالي.
كان الشيخ القسَّام رحمه الله، يحث الناس على الجهاد، والدفاع عن الأرض، وأنَّ على المسلمين أن يستغلوا أموالهم لشراء الأسلحة لقتال اليهود والإنجليز بدلاً من زخرفة المساجد وشراء الثريات الفاخرة، وذات مرَّة وهو واقف على المنبر، وبينما كان يخبئ سلاحه تحت ثيابه، رفعه وقال: "من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليتقن مثل هذا" ممَّا انعكس على المسلمين، فسطّروا سجل عزّ، في وقت كانت الأمَّة تائهة غافلة عمَّا يجري حولها من مؤامرات ومكائد.