تحدثنا في الحلقة الماضية عن مشاهد وملامح تراجع الدولة اليهودية في الفترة الأخيرة وأوضحنا كيف بدأت تزحف عليه علامات الشيخوخة المُبكِّرة؛ حيث تراجعت معدلات الهجرة اليهودية السَّنويَّة إليه، ووصلت معدلات مواليد السُّكَّان العرب الأصليِّين إلى مستوياتٍ تشير إلى أنَّه لن تمضي بضعة عقودٍ إلا وتعود فلسطين ذات غالبيَّةٍ عربيَّةٍ مسلمةٍ كما كانت عبر تاريخها، وهو ما يُعْرَفُ لدى صُنَّاع القرار الإسرائيليِّين ودوائرهم الخاصَّة باسم "خطر القنبلة الدِّيموغرافيَّة".
ولذلك بدأت إسرائيل في التَّحوُّل من مرحلة تثبيت الوجود إلى الانتشار كقوَّةٍ كُبرى، وأخذت تستفيد من المشروعات الأمريكيَّة في المنطقة في هذا الإطار، مثل للشرق الأوسط الكبير والشَّرق الأوسط الجديد وغزو العراق، وتوسَّع النُّفوذ الإسرائيليُّ الاقتصاديُّ والدبلوماسيُّ والعسكريُّ إلى أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبيَّة، بما في ذلك مناطق حوض النيل التي تعتبر العمق الإستراتيجيِّ الجنوبيِّ لمصر , وفي هذه الحلقة نتحدث عن التحولات البنيوية الحالية
تحولاتٌ بنيويَّةٌ آنيَّةٌ:
يُشير مصطلح "ما بعد الصُّهيونيَّة" إلى أيديولوجيَّة ما بعد الصُّهيونيَّة في إسرائيل، وبحسب الدكتور إيجال ليفي، البروفيسور في الجامعة الإسرائيليَّة المفتوحة، فإنَّ هذا المصطلح ظهر مع فكرة "القرية العالميَّة" التي ظهرت بعد انتهاء الحرب الباردة، وما حوته من دعواتٍ للانفتاح على "الآخر والمختلف"، ومع الانخفاض في تعريف الهويَّة القوميَّة لإسرائيل، ومع اقتصادٍ يعتمد الصِّناعة المرتكِزة على التُّكنولوجيا الإلكترونيَّة.
ومن النَّاحية الاجتماعيَّة، فإنَّ هذا المصطلح جاء تماشيًا مع طبيعة التَّحوُّلات التي حدثت في الطَّبقة الوُسْطى في إسرائيل، والتي تتبنَّى الأيديولوجيَّة اليساريَّة بالأساس، والتي تعتبر بحسب ليفي النقيض للطَّبقة الصُّهيونيَّة الجديدة التي ظهرت في إسرائيل، والتي حدَّدها عالم الاجتماع الإسرائيليُّ أوري رام في شرائح الطَّبقات الدُّنيا بالأساس، مثل اليهود الشَّرقيِّين والمتديِّنين).
ويحدِّد ليفي الخلفيَّة الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة التي أدَّت أو دَعَتْ لظهور فكر ما بعد الصُّهيونيَّة في إسرائيل؛ حيث يشير إلى أنَّها نشأت في إسرائيل في أعوام التِّسعينيَّات تأثُّرًا بالتَّحوُّلات الجذريَّة للصِّراع العربيِّ الإسرائيليِّ، وكذلك بالتَّحوُّلات البُنويَّة التي أفرزتها العولمة على المجتمعات الإنسانيَّة والتي أدَّت إلى تسريع عمليَّة اللَبْرَلَة الاقتصاديَّة والثَّقافيَّة والسِّياسيَّة في المجتمع الإسرائيليِّ.
وفي هذا السِّياق المزدوِج ظَهَرَ علم الاجتماع الجديد المتماهي مع مصطلح "ما بعد الصُّهيونيَّة"، والذي اقترحَ بأنْ يتم إعادة فحص مجدد للمصطلحات الأساسيَّة لـ"المُجْتَمَع الإسرائيلي"، ومن بينها علم الاجتماع الحديث أو النَّقديِّ، الذي رَفَضَ الشَّكل القديم لتعريف "المجتَمَعَ الإسرائيليِّ" على أنَّه "المجتمع اليهودي"، ونادَى بالنَّظر إلى المجتمع في إسرائيل على أنَّه مجتمعٌ يعيش فيه اليهود والعرب على حدٍّ سواء، ورَفَضَ بأن ينظر إلى تاريخه فقط من وجهة نظر الصراع الإسرائيلي العربي.
كما اقترح علم الاجتماع الحديث أو النَّقديِّ هذا في إسرائيل فحص نقاط التَّحوُّل الرَّئيسة في تطوّر العلاقات الاجتماعيَّة داخل المجتمع الإسرائيليِّ، ونادى بإسقاط الاحتكار الذي قامت به الأيديولوجيَّة الصُّهيونيَّة في عرض الروايَّة التاريخيَّة الإسرائيليَّة وتعريفها لإسرائيل.
وكان من بين عوامل حدوث ذلك في إسرائيل هو صعود دور العرب الفلسطينيِّين واليهود الشَّرقيِّين القادمين من بلادٍ عربيَّةٍ وإسلاميَّةٍ في السِّياسة والاقتصاد داخل إسرائيل، انطلاقًا مِن عِقْدَي الثَّمانينيَّات والتِّسعينيَّات، وهو ما أدَّى إلى حدوث العديد مِن التَّغيرات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة داخل إسرائيل طبعت على عقد التِّسعينيَّات بكامله، وحدَّدت مِن جديدٍ شكل العلاقات الاجتماعيَّة بين العرب واليهود وبين شرائح اليهود أنفسهم؛ حيث طرأت العديد مِن التَّحوُّلات على حدود المُواطنة والعرقيَّة في المجتمع الإسرائيليِّ.
ووهو ما مكَّن العديد مِن المجموعات غير الأشكينازيَّة، أي من غير ذوي الأصول الأوروبيَّة والغربيَّة، مِن الوصول إلى مركز صناعة القرار السِّياسيِّ في إسرائيل، وهو واقعٌ تحياه إسرائيل بالفعل منذ السَّبعينيَّات، وهو ما غيَّر حتى مبدأ المشاركة السِّياسيَّة نفسه في إسرائيل.
وقد تجلَّت مثل هذه التَّحوُّلات على سبيل المثال في صعود نجم الأحزاب والتيارات الدينية اليمينيَّة؛ مثل حركة "شاس" ممثِّلة اليهود الروس في إسرائيل، و"إسرائيل بيتنا"، وصعود تيَّار الوسط الفلسطينيِّ من خلال لجنة المتابعة العربيَّة، إلاَّ أنَّ هذا لا يعني عدم وجود تحوُّلاتٍ داخل اليمين الإسرائيليِّ ذاته، حيث بدأ دور المُتديِّنين "الحريديم" في الازدياد داخل الجيش وداخل المجتمع وقطاعاته المدنيَّة المُختلفة، فمنذ سنوات قليلة لم يكن للحريديم وجودٌ تقريبًا في الجيش الإسرائيلي، والآن وصلت نسبة وجودهم في بعض الوحدات، وعلى مستوى بعض إلى أكثر من ستين بالمائة.
كذلك كان لليمين المتدين في إسرائيل دورٌ كبيرٌ في تشكيل الحكومة الحالية؛ حيث إنَّ التفافهم حول الليكود على حساب كاديما، هو ما مكن الليكود من تشكيل حكومة الائتلاف الحاكم الحالي، برغم حصوله على مقاعد أقل في الكنيست من حزب كاديما في انتخابات فبراير 2009م [27 لليكود مقابل 28 لكاديما].
وكان لاستجابة نتنياهو لمطالب الأحزاب الدينيَّة فيما يخص ميزانية المدارس الدينيَّة، وكذلك مطالبهم الاجتماعيَّة الأخرى دورٌ كبيرٌ في نجاحه في تشكيل الائتلاف الحاكم الحالي، والذي تتهدّد مصيره الاحتجاجات الاجتماعيَّة الحالية، بسبب كونها تعكس نكوصًا، أو على أقل تقدير فشلاً، من جانب حكومة نتنياهو في البُعد الاجتماعي.
كما كان خروج حزب كاديما من رحم الليكود أيضًا أحد مظاهر تحوُّل اليمين الإسرائيليِّ الذي تحوَّل إمَّا إلى شكلٍ أكثر تطرُّفًا كما في حالة الحريديم أو شكلٍ أكثر اقترابًا من منطقة الوسط كما في حالة كاديما.
في المقابل تنامى الحس الإسلامي في داخل فلسطين المحتلة عام 1948م، وتمظهر ذلك في صعود التيار الإسلامي في الداخل، وتنامي قوة الحركة الإسلامية في فلسطين 48، وقدرتها على حشد الجماهير وتعبئة المواقف ضد قرارات الدولة الصهيونية، من خلال المواقف السياسية والفعاليات الجماهيرية المختلفة، والتي من بينها مهرجانات أم الفحم والتي يحضرها عشرات الألوف من عرب الداخل، إضافة إلى دور الحركة بقيادة الشيخ رائد صلاح، في التصدي لسياسات التهويد والاستيطان في القدس الشريف المحتلة، وفي عموم فلسطين.
كما إنَّه ثمَّة دلالة مهمَّة للغاية لمنظومة القوانين التي أقرتها أو تخطط الحكومة والكنيست في إسرائيل لإقرارها في صدد التأكيد على يهوديَّة الدولة؛ حيث تعكس هذه الحركة المحمومة جانبًا نفسيًّا شديد الأهميَّة لدى القادة في الكيان الصهيوني، وهو أنهم باتوا يشعرون بالخطر أكثر وأكثر على المشروع الصهيوني ودولته في فلسطين.
الاحتجاجات الاجتماعية ..
كان هتاف "الشعب يريد..." هو أحد الأيقونات الأهم في حراك الثورة المصرية والثورات الحالية التي تجتاح العديد من البلدان العربية في ربيعها الحالي، حتى ولو كان صيفها ملتهبًا، فهو بلا فساد أو استبداد.
المهم أنَّ هذا الشعار الآن صار أحد مفردات الحياة العامة في إسرائيل، وذلك في تأثير تجاوز بالمطلق تخيل أيٍّ من المراقبين والمتابعين لتداعيات الثورات في مصر والعالم العربي على إسرائيل؛ حيث ظنَّ الجميع أن التأثير سوف يقتصر على الجوانب المتعلقة بالنواحي الأمنية والاستراتيجية التقليدية، أو العلاقات ما بين إسرائيل وبين مصر وغيرها من البلدان العربية.
ويقول الكاتب الإسرائيلي نحميا ستراسلر، في توصيفه لموقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال الأزمة الأخيرة في إسرائيل، إن نتنياهو "مذعور"؛ حيث يخشى نتنياهو من اتساع نطاق الاحتجاجات لتشمل قضايا أخرى تتحمَّل أعباءها الطبقة الوسطى، وهو ما قد يقود إلى تزايد احتمالات حدوث تمرد شعبي، ولذلك يصف الكاتب يوسي فيرطر الأوضاع في مكتب نتنياهو "يعيش في أجواء حرب" لهذا السبب!!
وكما قلنا؛ فقد مثل كل ذلك صدمة هائلة للمجتمع الإسرائيلي الذي كان يظن نفسه منيعًا، ولكنَّه وجد نفسه هشًّا لدرجة أنَّه يعاني من مشكلات أشبه بمشكلات دول العالم الثالث، وبعد أن كان يظن أنَّه واحة للتقدم والديمقراطية في الشرق الأوسط؛ صار يعاني من أزمة سكن وأزمة وقود، وكأنَّ المشهد في بلد آخر من بلدانت العالم النامي المتخلفة!!
وفي الأخير؛ فإنَّه على الرَّغم من أنَّ إسرائيل في الوقت الرَّاهن تبدو وكأنَّها تملك مختلف أشكال المناعة والقوة المُسلَّحة؛ فإنَّها تمر بمرحلة من الخوف والشعور بالحصار غير مسبوقة، تعزّزها مستجدات في منتهى الأهميَّة، وعلى رأسها الثَّورات الشَّعبيَّة الحالية في العالم العربيِّ؛ حيث خسرت إسرائيل بالفعل في مصر وتونس نظامَيْن من أقوى الأنظمة الدَّاعمة لها، وخصوصًا في الجانب الأمنيِّ.
كما أنَّ رعاية القاهرة للمصالحة وبداية التفكير في التعامل مع حركة حماس، مهما كانت العثرات في الوقت الرَّاهن، قد أفشل سنوات طويلة من الحصار الدِّبلوماسيِّ والعسكريِّ والأمنيِّ الإسرائيليِّ على قطاع غزة وعلى الحركة، وعلى مشروع المقاومة برمته، وكل ذلك من شأنه بطبيعة الحال دعم مشروع المقاومة على حساب مشروع التَّسوية.. وهي فرصةٌ ذهبيَّةٌ ينبغي اغتنامها قبل فوات الأوان!