هذه من الأمور المذكورة في آيات الصيام في سورة البقرة، دلالة مباشرة أو ضمنية، فابتدأت الآيات بأن الله فرض علينا الصيام، كتبه كما كتبه على الذين من قبلنا، وغاية ذلك النهائية هي التقوى، ثم بين أن الصيام أياماً معدودات، وبين بعض حالات أصحاب الأعذار، فديننا واقعي يأخذ بعين الاعتبار الظروف القاهرة، ومن أجل ذلك شُرّعت الرخص، بل الأخذ بالرخصة في ظرفها يعد مثل العزيمة، مسألة محبوبة عند الله تعالى "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"، ثم يعرف الله شهر رمضان بأنه شهر القرآن، ولم يأت هذا بلا غاية، بل إن النص يلفت أنظارنا إلى أهمية القرآن في حياتنا، وضرورة أن تكون عنايتنا بالقرآن دائماً، ولكنها في رمضان ذات خصوصية، ثم تأتي آية الدعاء التي تسقط مبدأ الواسطة بين العبد وربه، وهي مسألة ليست عند النصارى وبعض الديانات فقط، بل مسألة نعاني منها عند بعض الفرق، التي عظمت أشخاصاً بحجة الولاية، وجعلتهم واسطة، وهكذا الخلل عندما يصيب الاعتقاد، فنتوقع بعده أي شيء.
ثم يأتي الحديث عن بعض الأمور المتعلقة بأحكام الصيام، من مسألة العلاقة الزوجية في رمضان، إذ تحرّج بعض الصحابة من مسألة إتيان الزوجات في رمضان ليلاً، وتحدثت الآيات أيضاً عن وقت الصيام، وبعدها تختم الآيات بالحديث عن التقوى مرة أخرى.
وعودة إلى عنوان مقالي هذا، إنه الصيام والقرآن والدعاء، هذا هو الزاد الفعلي في رمضان، فالصيام يعوّد المسلم على الصبر، ولجم النفس عما تشتهيه، وبالتالي تحقيق مسألة لطالما أحببنا وجودها في الشخصية الإسلامية، ألا وهي صنع الإرادة عند الإنسان، هو في غير رمضان لا يتحمل ساعات قليلة تمنعه من الشراب والطعام، وعن التدخين، ولكنه امتثالاً لأمر الله نجده يواصل الساعات الطويلة، يتحمل ويتحمل، طاعة لله تعالى وطلباً لمغفرته، نفسه تلين، وعندها يقنع نفسه بأنه قادر، وبالتالي فكم من أشياء لم نفعلها في غير رمضان بحجة عدم القدرة، فها نحن نستطيعها، ولكنها النفس التي جبلت على الراحة والدعة، التي تحركني كيفما شاءت، وآن الأوان لي أن أتحكم بها أنا، أن أقودها أنا، وفق ما يحب ربي ويرضى، لا أن أكون مطية لنفس أمّارة بالسوء، ربما سهوة واحدة عنها توردني جهنم، تحبب لي الذنب، وهكذا.
إنه اكتشاف حقيقة القوة الموجودة في الإنسان، وأهمها قوة الإرادة التي ينبغي أن نتحلى بها، والإرادة هي العنصر المفقود فينا بشكل عام، نميل إلى الأسهل المتاح، وليس عندنا المغامرة ولا المثابرة، كم منا من بإمكانه أن يصعد أعالي الجبال، ولكنه رضي لنفسه الدون والعيش بين الحفر، كم منا من بإمكانه أن يبلغ أعلى الدرجات دنيا وآخرة، ولكنه آثر الكسل والإحباط ولوم القدر الذي لا يعلمه، وبقي في مرتبة متدنية، فلم ينل من الحسنات، ولم يرتفع في ميزان الله، ولم يترك أثراً يشهد على فعله بعد مماته.
الصيام مدرسة في الصبر، والصبر نصف الإيمان، فالإيمان نصفه شكر ونصفه صبر، وهي حالات الإنسان عموماً، بين سراء تستحق الشكر، أو ضراء تستحق الصبر، وهكذا حالنا في دنيانا، إلى أن ننتقل إلى دار آخرة، إما جنة أبداً أو نار أبداً، وكم من النوائب والابتلاءات التي نتعرض لها في حياتنا، وهي سنة الله سبحانه فينا، وعد بابتلاء الناس كافة، ولكل نوعية الابتلاء التي يريدها الله عز وجل، وقد يكون الغنى والمال نفسه ابتلاء، قد يكون نقمة لا نعمة، وصدق الله إذ بين أن الابتلاء يكون بالخير والشر، بالغنى والفقر، وهكذا.
فالصيام دورة في الصبر تعين على تحمل مشاق الحياة وفتنها وابتلاءاتها، وهو فترة كافية لمن أراد أن ينهج منهج السيطرة على النفس يلجمها ويطوعها وفق ما يحبه الله، لا وفق هواها ورغباتها، وهو صنع الإرادة القوية الصلبة واكتشاف مكنونات القوة في النفس.
ومع الصيام القرآن، فالآية ترشد إلى نزول القرآن في رمضان، في ليلة القدر منه، وأيضاً فبداية الوحي مباشرة على قلب النبي صلى الله عليه وسلم كانت في رمضان، وللقرآن أساليب لمراعاته، في القراءة الذاتية، وفي قيام الليل، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم فرصاً ثلاثة للمسلم في نيله المغفرة التامة في رمضان، إحداها في الصيام "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه"، وثانيها في القيام "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه"، وثالثها ليلة القدر "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه"، فلا بد للمسلم من عناية فائقة مع القرآن، يتعود بعدها على مراعاة القراءة والتدبر حتى بعد رمضان، فصحبة القرآن مستمرة غير مرتبطة بزمن، ومن نال صحبة القرآن نال أهلية أن يكون من أهل الله، بل من خاصة أهل الله كما ينص الحديث الشريف.
أما الدعاء فعجيب أمره أن يأتي بين آيات تشريع الصيام من جهة، وبيان بعض أحكامه من جهة أخرى، ترى لمَ ذكرها الله هنا؟ إنها لحكمة عظيمة تدلنا على أن من أوقات الدعاء المحببة هو الصيام، والإنسان في عبادة مستمرة خالصة لله تعالى، فكل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لله، وهو يجزي به، لأنه أبعد العبادات عن الرياء من جهة، ولأنه من أنواع الصبر، والله يجزي على الصبر بغير حساب، لأنه مشاعر داخلية وتفاعلات للنفس مع خالقها سبحانه، لا يعلم قدرها وجزاءها إلا من يعلم السر وأخفى سبحانه، ومن هنا فالدعاء الذي هو العبادة ومخها، ومظهر من مظاهر التذلل والخضوع والانكسار والاعتراف لله سبحانه بالألوهية وحده، هذا الدعاء ليس بحاجة لواسطة بين العبد وربه، بل الله قريب يجيب دعوة الداع إذا دعاه.
وهذه كلها تجعل المسلم في مرتبة عالية من التقوى، وهي الثمرة النهائية المقصودة من الصيام، فابتدأت آيات الصيام بالتقوى وختمت بها، ونحت بحاجة إليها، نعمّر بها قلوبنا، وتمنحنا الثقة بالله وبأنفسنا، نسير بها في حياتنا على نور وهدى، مطمئنين في سيرنا إلى الله، دعوة وحركة بهذا الدين وتحملاً للمسؤولية، منتظرين راغبين رحمة وجنة بصحبة الحبيب محمد، صلى الله عليه وسلم.
هي دعوة للنفس ولكل من نحب، في أن يكون رمضان هذا العام مختلفاً عما سواه، نريد نية صادقة في التحول والتغيير، كفى ما كان، ولنقل آن الأوان، ولنسر بالنفس إلى بر الأمان، ومن ثم إلى رحاب الجنان.