يتلو المؤمنون في كلِّ ركعة من صلاة فريضة أو نفل سورة لا تصح صلاة أحدهم إلاَّ بقراءتها؛ إنَّها سورة الفاتحة، فهي أمُّ القرآن، وسورة الحمد، والكافية، والشفاء، وهي سورة الشكر والدّعاء، ففي هذه السورة القليلة في عدد آياتها، العظيمة في معانيها ودلالاتها تتجلّى العبودية الحقيقية والخالصة لله ربّ العالمين، وتنبع من بين سبع آياتها أصول العبادة التي إن استشعرها المؤمن أثّرت في قلبه وجوارحه وحياته، فمن المعاني التربوية والدلائل الإيمانية التي حوتها هذه السَّورة رحمة الله سبحانه وتعالى التي تمكن في اسمي الله عزَّ وجل الرّحمن الرّحيم، قال الله تعالى:{الرَّحمنِ الرَّحيْمِ} (الفاتحة:2). فالرَّحمن والرّحيم، اسمان مشتقان من الرَّحمة على وجه المبالغة، والرَّحمن أشد مبالغة من الرَّحيم. قال ابن جرير الطبري في تفسيره : الرَّحمن لجميع الخلق، والرحيم، قال: بالمؤمنين، قالوا: ولهذا قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (الفرقان: 59)، وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5)، فذكر الاستواء باسمه الرَّحمن ليعمَّ جميعَ خلقه برحمته، وقال سبحانه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب: 43)، فخصَّهم باسمه الرَّحيم، قالوا: فدلّ على أنَّ الرَّحمن أشد مبالغة في الرَّحمة لعمومها في الدَّارين لجميع خلقه، والرَّحيم خاصة بالمؤمنين.
وقد اقترن اسم الله تعالى الرَّحمن في القرآن الكريم باسمه الرَّحيم في ستة مواضع ولم يقترن بغيره، منها قوله تعالى : {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم}. (البقرة:163)، وقوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ }. (الحشر:22)، وقوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }. (النمل:30).
ورحمة الله سبحانه من أعظم صفاته بالنسبة لعباده، فهي تفتح أبواب الرَّجاء والأمل، وتدفع أبواب الخوف واليأس، وتشعر الشخص بالأمان والأمان، والله عزَّ وجل غلبت رحمته غضبه، ولم يجعل الله لنا في هذه الدنيا إلاَّ جزءاً يسيراً من واسع رحمته، كما ثبت عند الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سَمِع رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)).
ومن رحمة الله تعالى بعبادة المؤمنين أن جعل لهم مواسم للطَّاعة تضاعف فيها أجور الأعمال الصَّالحة، منها شهر رمضان المبارك، الذي يستقبله المسلمون في كل مكان بالبشر والسرور والفرح، قال الله تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}. (يونس : 58).
وقد ورد في الأثر الذي حكم عليه أهل الاختصاص بالضعف: (أنَّ شهر رمضان أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النَّار)، ذلك أنَّ رحمة الله سبحانه بعباده تتجلّى في هذا الشهر، فلولا هذه الرَّحمة النازلة من عنده ما صام ولا قام أحد من خليقته.
وفي الحديث الصحيح :((إنه تفتح فيه أبواب الرَّحمة))، ولكن الأغلب على أوله الرحمة و هي للمحسنين المتقين قال الله تعالى : { إن رحمة الله قريب من المحسنين}، وقال الله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون} فيفاض على المتقين في أول الشهر خلع الرَّحمة والرضوان ويعامل أهل الإحسان بالفضل والإحسان.
رحمة الله سبحانه من أعظم صفاته بالنسبة لعباده، فهي تفتح أبواب الرَّجاء والأمل، وتدفع أبواب الخوف واليأس، وتشعر الشخص بالأمان والأمان
في شهر رمضان المبارك يلجأ المؤمنون بقلوب خاشعة إلى الله تعالى بالدعاء الخالص بأسمائه الحسنى، وباسمي باسمي الله الرَّحمن الرّحيم، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}. (الإسراء:110).
وفي هذا الشهر الفضيل، يتراحم ويتعاطف أغنياء الأمَّة مع الفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات والمعوزين، مستشعرين رحمة الله التي شملت عباده وعمَّت خلقه.
وفي هذا الشهر الكريم، يستشعر المسلمون أحوال وأوضاع إخوانهم المسلمين في أنحاء العالم، فتتدفق معاني الرَّحمة في قلوبهم وجوارحهم، فيشاركونهم آلامهم وأمالهم في قطاع غزة المحاصر، وفي الضفة المحتلة التي ترزح تحت احتلال غاصب يسرق الأراضي ويهدم البيوت ويضيق على النَّاس موارد رزقهم ومعاشهم، وفي القدس حيث المسجد الأقصى أين تشرئب أعناق المؤمنين لنظرة رحيمة وعين دامعة لما آلت إليه أوضاع المقدسات الإسلامية، وفي الصومال والقرن الإفريقي لا ننسى الحالة المأساوية التي عصفت بإخواننا لنا هناك، وفي كلِّ بقعة من بقاع العالم فيها موحّد لله تعالى.
اللهمَّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممَّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير، إنّك على كل شيء قدير، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطيهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء، ارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك.