لا شك في أنَّ صلاح الدين الأيوبي بذل جهوداً ضخمة لتحريره بيت المقدس، استغرقت هذه الجهود من الإعداد والتنظيم عشرات السنين، فلم يكن الاحتلال الصليبي احتلالاً عابراً، بل كانوا يعتقدون بأحقيتهم في هذه الأرض لما كانت تمثل لهم من القدسية والمنزلة العالية، وكانوا يسخرون جميع مقدراتهم وإمكانياتهم لخدمة بقائهم وسيطرتهم على الشَّام وبيت المقدس، ولقد تناوب على حمل هم التحرير لبيت المقدس الكثير من العلماء والقادة والحكام، منهم أسماء نعرفها ومنهم من لا نعرفهم، ولا يضرّهم عدم معرفتنا لهم، إذ إنَّ الله يعرفهم، منهم القادة ومنهم الجنود، ومنهم من له جهد مباشر، ومنهم كان جهده غير مباشر، ولكن لا شك في أنَّ مجموع هذه الجهود قادت لذلك النَّصر العظيم، ومن تلك الأسماء اللامعة التي شاركت وبفعالية في جيش صلاح الدين، بل كان أحد أبرز ثلاثة قوّاد في جيشه، وكان ساعده الأيمن، وعقله المدبّر، ومهندسه البارع بهاء الدين عبد الله الأسدي، المعروف باسم قراقوش.. فمن هو هذا المجاهد؟
من البداية ..
هو بهاء الدين عبد الله الأسدي (قراقوش)، كان غلاماً مملوكياً، وقيل: تركيّاً، جيء به من أسواق النخاسة، ألحق بمماليك أسد الدين شيركوه عندما كان هو وأخوه نجم الدين أيوب (والد صلاح الدين) أحد أركان دولة السلطان عماد الدين زنكي بالشام، واستمر (قراقوش) في خدمة سيِّده أسد الدين، في جيش الدولة الزنكية، أسلم على يد أسد الدين فأعتقه بعد ذلك، وصار مشهورًا بالأمير بهاء الدين قراقوش، وأصبح بعد ذلك من كبار أمراء أسد الدين شيركوه، وأيضًا من كبار قادة جيشه.
القائد العسكري المهندس ..
لمَّا أرسل نور الدين محمود قائد جيشه أسد الدين شيركوه إلى مصر ليسيطر عليها وصحبه ابن أخيه صلاح الدين كان معهم قراقوش، بعد أن أصبح قائدًا عسكريًّا كبيرًا، وتداعت الأحداث بعد ذلك بموت نور الدين في دمشق، وموت الخليفة العاضد آخر الحكام الفاطميين في مصر، ظهر نجم الأيوبيين، وآلت مصر والشَّام لحكم صلاح الدين الأيوبي.
وكان صلاح الدين كما ذكرنا يعتمد بشكل كبير على قراقوش، لما تميز به من القدرة على السيطرة والحزم وإنهاء القلاقل، خصوصا في أوضاع مصر في تلك المدَّة، وباشر صلاح الدين في تثبيت أركان ملكه وتقوية دولته وحمايتها من خطر الصليبيين فانتدب لهذا العمل قراقوش وكان خير من انتُدب، فأشرف على بناء القلاع والحصون والمنشآت العسكرية، وأقام الجسور ومهد الطرق، وظهر إبداعه الهندسي الذي يشهد عليه إلى اليوم قلعة الجبل في مدينة القاهرة في مصر التي تشرف على القاهرة كلها، وكانت حتى منتصف القرن التاسع عشر مقر حكم حاكم مصر لما تميزت به من إطلالة ومتانة وإحكام، ثم إنه ببناء قلعة المقياس بجزيرة الروضة، ثم سور مجرى العيون الذي ينقل المياه من فم الخليج حتَّى القلعة، وهو عمل هندسي عظيم بكل المقاييس لما فيه من دقة وحرفية هندسية عالية.
قراقوش في عكا..
وهكذا زادت هذه الإنجازات والقدرة على إدارة العمليات من تألق نجم قراقوش، وانتقلت بعدها ساحته إلى الشام، فأوكل إليه صلاح الدين مهمات بناء في فلسطين، كان أهمها وأكثرها تأثيراً في الدفاع عن المسلمين بناء سور عكا المدينة الحصينة، حيث تمكن صلاح الدين من تحريرها من قبضة الصليبيين، وقد تضرَّرت أسوارها وخربت، وكانت عكا الساحلية من أهم المدن التي يرتكز عليها الوجود الصليبي لسهولة وصول الإمدادات الأوروبية إليها، وعلى الفور، ذهب بهاء الدين قراقوش إلى المدينة، وبدأ بناءها مع حامية صغيرة، وواصل الليل بالنهار يبني ويرمم ما تهدَّم من سور المدينة وحصنها، وعكف على هذا العمل بهمةٍ لا تعرف الملل، وعزيمة لا تعرف الكلل.
وكان يدرك خطورة الوضع، فالصليبيون المهزومون يتربصون بها الدوائر، وبالفعل تجمَّع الفارون منهم وهجموا على المدينة وأحكموا الحصار عليها ولكن هيهات، لم يتمكنوا من إسقاطها لقوَّة ومتانة تحصيناتها وحنكة وخبرة حاكمها قراقوش، مع قلة أعداد الحامية، وقلة المؤن والسّلاح، فطال الحصار على عكا وكان يزداد شدة، وبدأت المؤن تنفذ من المدينة، فاستغاث الصليبيون وطلبوا المدد من أوروبا، فجاءهم المدد القوي الكثير الذي لم يكن هدفه عكا وحسب، بل كانت القدس هي الهدف الرئيس له.
كان حسن المقاصد، جميل النية، وكان له حقوق كثيرة على السلطان وعلى الإسلام والمسلمين
سقوط عكا وأسر قراقوش
اشتد الضرب على عكا، فاخترقت الأسوار وتدافع الصليبيون إلى داخل المدينة بعد سنتين من الحصار والقتال الشديد، حتَّى لم يعد في المدينة طعام ولا شراب، وأسر كلّ من لم يستشهد من المسلمين، وكان من بين الأسرى القائد قراقوش، فحزن صلاح الدين لما أصابه من خسارة هذه المدينة العظيمة وأسر المسلمين.
تحريره وذهابه إلى مصر
ظل قراقوش في الأسر مدَّة من الزمن، افتقده فيها صلاح الدين أيّما افتقاد، حتى تمكن من تحريره بفداء من صلاح الدين، فلمَّا وصل إلى فلسطين للقاء قائده وصاحبه فرح به صلاح الدين أيّما فرح، وكان هذا هو اللقاء الأخير بينهما.
ذهب قراقوش إلى مصر وكان فيها عندما توفي صلاح الدين الأيوبي، ظلَّ قراقوش على وفائه مع ابنه العزيز، يحمي عرش مصر والشام، ثمَّ كان وصيًّا على عرش المنصور، ومارس كل مهام السلطنة في بهذه الصفة، إلى أن أعفاه منها الملك العادل أخو السلطان صلاح الدين، وبعدها لزم بيته حتَّى توفاه الله عام 1201م
قالوا عنه..
قال ابن إياس في (بدائع الزهور): (كان قراقوش القائم بأمور الملك، يسوس الرَّعيَّة في أيامه أحسن سياسة، وأحبته الرّعية ودعوا له بطول البقاء).
وقال ابن خلكان في (وفيات الأعيان): "كان حسن المقاصد، جميل النية، وكان له حقوق كثيرة على السلطان وعلى الإسلام والمسلمين".
أما ابن تغري بردي فقال في (النجوم الزاهرة) عند ذكره صلاح الدين الأيوبي: (كان رجلاً صالحًا غلب عليه الانقياد إلى الخير، وكان السلطان يعلم منه الفطنة والنباهة).
وإنَّ ممَّا يتداول بين الناس عن الحاكم الظالم أن يقولوا: "حكم قراقوش" ظلما وعدوا، فما عرف عنه بالتاريخ إلا أنه كان من خير الناس، إلا أنه رحمه الله كان لا يحابي أحد الكتاب في الدَّولة الأيوبية، وهو الرجل العسكري الفذ، فكتب عنه كتابا أسماه "الفافوش في أحكام قراقوش" ونسب إليه ما ليس به فذاع الصِّيت السيّئ، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.