لقد تعوَّد الكثيرون على البرامج والجداول المعدَّة مسبقاً لرمضان، والتي تزيد في مجملها من كم العبادات على اعتبار أنَّ رمضان موسم التنافس في الطاعات، وهذه البرامج تشجع لا ريب على الزيادة والالتزام بالعبادة ما بين حد أدنى لا يُنصح بالوصول إليه في شهر مضاعفة الحسنات، وبين حد أعلى مفتوح لمن كان شعاره في رمضان "لن يسبقني إلى الله أحد" إلاَّ أنَّ هذه البرامج التي تركز على الزيادة الكمية في العبادات تفتقد لتعميق معاني العبادات و فقهها،فالعبادة كما يعرفها بعض العلماء "طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية"، وهذه المعاني لا تتحقق بمجرد أن تزيد ركعات الصلاة أو التسبيح والذكر وختمات القرآن، فالمقصود من رمضان أن يكون مدرسة تخرجك من مألوف العادات إلى حالة نهضة و تغيير ليصبح الشهر علامة فارقة في حياتك بين ما كنت قبله و ما ستصير بعده، وبهذا الفهم عمل الصحابة فكانوا يتحضرون لرمضان قبل ستة أشهر ويعيشون في ظلاله الأشهر الستة الباقية، ولهذا خلد شهر رمضان في تاريخهم كشهر الانتصارات فكانت بدر وأخواتها، بينما نعيشه في أيامنا كشهر للعطلة و الكسل والتعب والتخمة!
كان السَّابقون يرون في الصيام علامة قوة وتحمل يزينها فهم المقصد والإخلاص، فقد ورد في الأثر عن عيسى عليه السَّلام أنَّه قال: "إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته وليمسح شفتيه وليخرج إلى الناس حتَّى كأنَّه ليس بصائم". وقيل أيضا: "ست من كن فيه استكمل الإيمان: قتال أعداء الله بالسيف، والصيام بالصيف، وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي، والتبكير في الصلاة في اليوم الغائم، وترك الجدال والمراء وأنت تعلم أنك صادق، والصبر على المصيبة".
والقصد من مدرسة رمضان أن تنتقل من حالة الصَّلاح الفردي التي تركز عليها البرامج العبادية إلى حالة صلاح و إصلاح جماعي، فمن علامات قبول العبادة أن تجد لها أثراً في نفسك ومن حولك، و أن تأخذ من محراب صلاتك في ظلمة الليل لتنير ميدان الحياة الواسع، و هذا تشريف و تكليف قد لا يناله المتعبد المعتزل في صومعته، فقد ذكر في الحديث: ((لا يزال الله يغرس لهذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته)). و الفرق كبير بين أن يستعملك الله لإعلاء كلمته وخدمة عباده؛ لأنه سبحانه يراك أهلا لذلك، وبين أن تكون من عوام الخلق القاعدين الذين يعدون الدين بالركعات و بعدد حبات المسبحة و بعدد ما أنفقوا من الدنانير.
ولكل زمان عبادة، فعبادة الشباب غير عبادة الشيوخ، عبادة الرخاء غير عبادة الشدة، والعبادة في حالة الأمن غيرها في حال الخوف، وعبادة المضطر غير عبادة من عنده بسطة في الدين والدنيا، وعبادة المجاهد غير عبادة من يخلف المجاهد في أهله، ونحن في زمننا هذا بحاجة أن نستشعر معنى العبادة والهدف من تشريعها لا أن نتخذها وسيلة لمراكمة الحسنات فقط، فالصَّحابة لم يكونوا يعدون ختمات القرآن ولم يكن هم الواحد منهم متى يختم السورة " همته متى أستغني بالله، متى أكون من المتقين...متى أكون من المحسنين، متى أفقه ما أتلو، متى أخلص عملي؟“ كان يتعاملون مع القرآن كدستور حياة "من جعله أمامه قاده إلى الجنة و من جعله خلفه ساقه إلى النار"، كان يبكون في الدعاء، و لكنه ليس كبكاء تقصيرنا و عجزنا، فقد كان لخوفهم و بكاءهم معنى آخر وصفه أحدهم فقال"ليس الخائف من يبكي و يسمح دمعه و هو مرتكب للمعاصي، إنما الخائف الذي ترك الذنوب خوفا من ربه" و حتى ليلة القدر فقد أدركوا أنها تقيس قدرهم عند الله لذلك لا يحصل فضلها إلاَّ من وفقه الله لذلك بسعيه وحسن عمله، وقال ابنُ عطاء : (إذا أردت أن تعرف قدرك عند الله، فانظر فيما أقامك وفيما استخدمك وفيما أشغلك، فإن اشتغلت بالمعالي والمنفعة فقدرك عند الله عظيم).
و كانوا يرون السعي في حاجات المجتمع مدخلهم على الله وبابهم إلى الجنة فقال علي بن أبي طالب: "إن الجنة لتساق إلى من سعى لأخيه المؤمن في قضاء حوائجه ليصلح شأنه على يديه، فاستبقوا النعم بذلك".
لم يكتف جيل الأوائل بإعمار المساجد كما نفعل من رمضان إلى رمضان، لقد فهموا معنى حديث الرّسول صلى الله عليه وسلّم أن الأرض كلها جُعلت له مسجدا ليس دلالة على الطهارة وإمكانية الصلاة فحسب، وإنما توسيعاً لرسالة المسجد ورسالة الدين لتشمل الأرض كلها، فلا يكفي أن تكون طائعا قانتا متبتلا في مسجدك بينما يكون غيرك ساهيا لاهيا مذنبا خارج جدران المسجد لأنك لا تأمن بسكوتك عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أن يعمك الله بالبلاء و العقاب كما يعم المذنبين، فقد ورد في الحديث: ((إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، و من غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)).
إنَّ مقياس التغيير الحقيقي والحصاد الأبقى من مدرسة رمضان هو الثبات على معانيه بعده، وأن لا نكون من الذين يقطعون دينهم أياماً وشهوراً يعملون في بعضها و يتراخون في البعض الآخر، و لا يثبت على المعاني إلاَّ من كان قلبه معلقا برب الشهور و الأيام فلا انقطاع و لا انعزال و لا معذرة للنفس، أمَّا الرَّمضانييون، فينتظرون الشهر وتصفيد الشياطين ليبدؤوا من جديد دورة عبادية تفتر على مدار السنة، ومن رمضان إلى رمضان نعود إلى نقطة الصفر والبداية، ونظل ندور حولها، فهل نفهم ونغيّر ونجعل من رمضاننا هذا بداية يكون لها ما بعدها؟