إنَّ تزكية الأنفُس والارتقاء بها يُعتَبران من أهمِّ القَضايا التي يبحَثُها ويُعالِجها القُرآن الكريم والسُّنَّة والنبويَّة الشريفة، ولقد ورَد لفظُ التزكية على لسان موسى - عليه السلام - حين دعوَتِه لفرعون مصر؛ يقولُ الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ﴾ [النازعات: 18]، وكذلك أتى لفظ التزكية في معرض الحديث عن رسالة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
إنَّ تزكية الأنفُس هي معرفةُ عُيوبها ونَقائصها، والسَّعي في تخليصها من ذلك كله، والتزكية أمرٌ مُحبَّب للبشَر يدفعهم إليه نزعةٌ ورغبةٌ دفينةٌ هي حبُّ الكمال والسعيُ وَراء الأفضل والأحسَن.
إنَّ الخطوة الأولى في درْب تزكية النفس هي الاعتراف بأنَّ النقص والخطأ من صِفات البشر، ويُستَثنى منهم الأنبياء والرُّسل الذين أدَّبهم الله فأحسن تأديبَهم، وجعل لهم العِصمة، وكيف لا يكونُ الإنسان عُرضةً للنقص وإبليس اللعين يَنصِبُ له حِبالَه وشِباكَه ليُوقِعه في نقص المعصية وعَيْبها؟!
إنَّ الاعترافَ بالنقص لا يُعتَبر مُسوِّغًا لقبوله أو التمادي فيه، ولكنَّه يُذكِّر بضَرورة التَّواضُع والعمَل على تربية النَّفس بمعرفة عيوبها وإصلاحها، وهذه هي التزكية التي جعَلَها الله شرطًا للفَلاح في الدُّنيا والآخِرة: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9-10].
إنَّ البحث عن حقيقة النفس ومعرفة عيوبها هي ضالَّة الحكماء والعُلَماء وأهل الزهد والصلاح
إنَّ البحث عن حقيقة النفس ومعرفة عيوبها هي ضالَّة الحكماء والعُلَماء وأهل الزهد والصلاح الذين أفنَوْا أعمارهم في البحث عنها، ولقد عَدَّها بعضُهم من أنفَس الهدايا؛ إذ يقول: "رَحِمَ الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي".
إنَّ معرفة عيوب النفس والسَّعي في عِلاجها يُعتَبران من أعظم أساليب التربية، وهذا دربٌ طويل شاقٌّ له وسائل عدَّة، منها ما يكون بين المرء ونفسه، ومنها ما يحتاجُ المسلم فيه إلى مَعُونة غيرِه.
إنَّ مُراقبة المسلم لنفسه ومحاسبتها بأمانةٍ وإنصافٍ يُعتَبران من أهمِّ الوسائل المُعِينة على معرفة عيوب النفس وإصلاحها، وأساس مُراقبة النفس ومحاسبتها هو العِلم بِخَفايا النفس الإنسانيَّة ودَقائق عُيوبها، إنَّ الإصلاح لا تكفي فيه النيَّة الصادقة والعزم الأكيد؛ إذ يحتاجُ المرء إلى معرفة ما يحتاجُ إلى إصلاحٍ من أمر نفسه.
ومن أعظم وَسائل معرفة عيوب النفس التي يستعينُ فيها المسلم بغيره طلبُ النصيحة من أخٍ محبٍّ وصالح ومجرِّب، أو عالم خبير بالنفس الإنسانيَّة وعللها، وتحمِل هذه الوسيلة في طيَّاتها وسيلةً أخرى هي الحِرص على الصُّحبة الصالحة، فالمؤمن مِرآة أخيه، ولقد عَدَّ الخليفة العادل عمرُ بن عبدالعزيز النصيحةَ من أعظم واجبات الأُخوَّة وحُقوقها في مَقولته الحكيمة التي يَذكُرها ابن المبارك في كتاب "الزهد": "مَن وصَل أخاه بنصيحةٍ له في دِينه، ونظَرٍ له في صَلاح دُنياه، فقد أحسَن صِلته، وأدَّى واجبَ حقِّه".
وأصرح من هذا ما يَذكُره ابن المبارك عن العابد الزاهد ميمون بن مهران قُدوة أهل الجزيرة الذي عرَض نفسه على جمعٍ من أصحابه وقال لهم مقولةً صريحة: "قولوا لي ما أكرَهُ في وجهي؛ لأنَّ الرجل لا ينصَح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكرَه".
"ما نصحتُ أحدًا فقَبِلَ مِنِّي إلا هِبتُه واعتقدت مَودَّته، ولا ردَّ أحدٌ عليَّ النُّصح إلا سقَط من عيني ورفضته" الإمام الشافعي
ويجبُ على المؤمن الصادق الاستماعُ إلى الناصح دون مقاطعة أو عرض لمعذرة أو تبرير لفعل، وعليه أنْ يفرح بالنصيحة إذا أُعطِيها فَرحًا ينسيه ما يجدُه في نفسه من الألم بسَماع نقصه وعيبه من غيره، ولقد عَدَّ الإمام الشافعي - رحمه الله - قبولَ النصيحة علامةً من علامات تمام الحِكمة وإخلاص المودَّة في قوله: "ما نصحتُ أحدًا فقَبِلَ مِنِّي إلا هِبتُه واعتقدت مَودَّته، ولا ردَّ أحدٌ عليَّ النُّصح إلا سقَط من عيني ورفضته".
ومن وسائل معرفة النفس وعيوبها الاختلاطُ مع الناس والاشتراك في الأنشطة والأعمال الجماعيَّة، وهذه الوسيلة تُبيِّن صِنفًا خاصًّا من العيوب التي لا تظهَرُ إلا حين مُعاملة الغير، ومثال هذه العيوب: قلَّةُ الصبر مع الجهل، والعجب بالرأي، والبخل مع السائل، والاستئثار بالحديث في المجالس، وعدم مساعدة المحتاج وخذلانه، والكسل والاعتماد على الغير من غير حاجةٍ أو ضرورةٍ.
ومن وسائل العلم بعيوب النفس ملاحظةُ عيوب الآخرين من غير بحثٍ ولا تقصٍّ للتأكُّد من سَلامتنا ممَّا وقَعوا فيه والتحرُّز والحذَر منه، وهذه الوسيلة لا تعني تتبُّع عَثرات الناس وعيوبهم والولوغ في أعرضاهم، إنما هي الاستفادةُ ممَّا نلحَظُه حال اختِلاطنا بهم وعيشنا معهم، ومِثال هذه الوسيلة هو تذكير النفس بضرورة التقليل في الكلام والإيجاز فيه إذا جلَسْنا مجلسًا فيه شخصٌ ثرثار مِهذار.
وزيادةً في إيضاح الوسيلة السالف ذِكرُها يجدُر التذكير بأنَّ المسلم العاقل هو مَن انشَغَلَ بعيوب نفسه وإصلاحها عن عيوب الآخرين، وشُهود مجالس إحصائها السيِّئة، ولقد عدَّ العابد الزاهد السري السقطي البغدادي الانشغالَ بعيوب الناس علامةً من علامات الخسران والتغرير من الشيطان والغَفلة عن النفس في قوله: "من عَلامة الاستِدراج للعبد عَماه عن عَيْبه، واطِّلاعه على عيوب الناس، إنَّ في النفس لشُغلاً عن الناس"، ولله درُّ القائل: "إذا رأيت الرجل ينشَغِل بعيوب الناس عن عيوب نفسه، فاعلم أنَّه قد مُكِرَ به".
إنَّ العيوب لَعجيبةٌ، فهي أمرٌ يُستَحيَى منه، ولكنَّ معرفتها تُعِينُ على إصلاح النفس وتزكيتها وفَلاحها، وكلُّ مَن أدرَكَ ذلك، فإنَّه يُبادر في البحث عنها وطلبها من أحبَّائه وأصدقائه.
إنَّ أهمَّ وسائل معرفة العيوب دُعاء الله - سبحانه وتعالى - أنْ يرزُقنا العلم والبصيرة بأنفسنا وعيوبها، وأنْ يُعِيينا على حُسن تربيتِها.
اللهم اهدِنا لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسَنِها إلا أنت، واصرِفْ عنَّا سيِّئها، لا يصرف عنَّا سيِّئها إلا أنت.