قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183) هذا خطاب من الله تعالى للذين آمنوا، أي: من توفرت فيهم صفة التصديق بالله والإيمان به وبأسمائه وصفاته، والإيمان بالملائكة والرسل واليوم الآخر والقدر، وهذا التصديق والإيمان يلزمه ما يقويه ويثبته، فيأتي من الله النداء للذين آمنوا أن هيّا قووا إيمانكم واجعلوه صلباً واجعلوا هذا من أجل الوصول إلى تقوى الله عزّ وجل لأنَّ تقوى الله هي المراد وهي الغاية، وهي الشيء الذي أراده الله منا في كل شيء {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}(الحج:37)
فالصَّلاة والصّيام والزّكاة والحج وكل فرائض الإسلام تستوجب أن يتحصّل المسلم منها على شيء مهم جداً، ألا وهو التقوى؛ أي: مخافة الله ومراقبته في كل الأعمال. فهذه التقوى تأتي مع الامتثال المطلق لأوامر الله ونواهيه، وهذا الخلق تتكامل فيه كل العبادات والطاعات لتحقيقه، كل منها بقدر ويأتي الصيام الذي هو صاحب النصيب الأكبر في ترسيخ التقوى في نفوس المؤمنين.
فهذه العبادة تعتمد على السرية التي لا يستطيع أحد أن يكشفها، علاقة بين العبد وربه لا يطلع عليها إلاَّ الله لا رقيب ولا حسيب غيره، وهي مبدأ رئيس من مبادئ التربية التي يريد الله أن يربّي عباده عليها، وهذه العبادة للمؤمنين دون غيرهم، أي: لمن انتفى عنهم النفاق ولمن تعدوا مرحلة التصديق والإيمان.
فالصِّيام بمثابة اختبار تتفاوت فيه نسب الناجحين، من ناجح بامتياز، وآخر بتقدير جيد جداً الخ.. الصوم ثلاث درجات : صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص، أمَّا صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة ، وأمَّا صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص فهو صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله بالكلية.
وهذه الرِّسالة التربوية الجليلة من الله تهدف إلى :
1- قياس مدى طاعة المؤمن لله والامتثال لأوامره ونواهيه.
2- تحقيق عنصر التقوى.
3- تمييز الأمم عن بعضها فقوله تعالى: (كما كتب على الذين من قبلكم) يبيّن أنَّ هذه الفريضة كتبت على من كانوا قبلنا وأدوها ويريد الله أن يرى من خير أمة أخرجت للناس كيف يكون صيامها وكيف يكون أداؤها؟
4- تحقيق الوحدة والترابط بين المسلمين بين غنيهم وفقيرهم، فعندما يصوم الغني يستطيع أن يدرك معنى الحرمان الذي يحس به أخوه الفقير وهذا الإحساس يولد نوعا من التراحم والترابط والتآلف.
5- إدراك قدر نعمة الله علينا وفضله ومنّه وكرمه فهو الذي أمدنا بكل شيء {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 11،10). فقد أعطانا ومنع آخرين وأغدق علينا من نعمه وهذه النعمة نحس بقيمتها وقت أن نحرم منها ورمضان فرصة لإدراك هذا المعنى.
6- إيجاد وسيلة تحمي النفس من الوقوع في المحرمات، فقد ثبت في الصَّحيحين: (( يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)). فالصَّوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان.
والصِّيام هو هدي تربوي يعلمنا أنَّ الحرمان مطلوب لتهذيب النفس، ولكن بقدر معين فالله تعالى ترك لنا باقي السنة إحدى عشر شهرا وطلب منا الامتناع لشهر واحد {أياماً معدودات}. فإن أردنا الاهتداء بهدي الله وجب علينا أن نعامل أنفسنا بهذا الأسلوب، أن يكون لنا وقتٌ نحرم فيه أنفسنا من بعض ما تشتهيه، فإذا امتثلت كوفئت على ذلك .
وليس الصّيام هو الصيام عن الطعام والشراب، ولكنَّ الصيام عن كل ما يغضب الله، من غيبة ونميمة وكذب ورياء وعجب وإطلاق للبصر وإيذاء الناس وتفريغ القلب تماما من كل شيء سوى الله، وتطهيره من الدنس والخطايا ليحل محلها التقوى ومخافة الله حتى يحس المسلم بحلاوة الإيمان. فالله تعالى وفر لنا هذا الجو المليء بالإيمان في رمضان بأن أمرنا بالصيام الذي هو بمثابة سدا منيعا أو حاجزاَ بيننا وبين ارتكاب المعاصي وصفد لنا الشياطين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ( قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، قَدْ حُرِمَ .) رواه أحمد.
فمن ناحية سهَّل الله لنا مهمة ترك المعاصي بأن سلسل الشياطين، وأضعف أداءهم، فيقلّ إغوائهم، ومن ناحية أخرى ضاعف الحسنات إلى أضعاف كثيرة جدّاً. ثبت في الصّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي. للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك))، وفي رواية: ((كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم، والصوم لي وأنا أجزي به)). وعلق على هذا ابن رجب الحنبلي بقوله: (وعلى الرواية الأولى يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة، فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلاَّ الصّيام فإنَّه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافاً كثيرة، بغير حصر عدده، فإن الصيام من الصبر، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}.. الزمر (10). ولهذا ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه سمَّى شهر رمضان شهر الصَّبر، وفي حديث آخر: (الصوم نصف الصبر) أخرجه الترمذي.