مدخل:
خلال تناولنا لموضوع شائك كهذا، نجد أنفسنا مضطرين إلى عرضه كقضية مطروحة أو متداولة في إحدى أروقة المحاكم، وخلال هذا المقال سوف أحاول تقمص شخصية المدّعي العام لأترافع متهماً اليهود باغتصاب أرض فلسطين من أصحابها الشرعيين وإقامة كيان غير شرعي عليها بعد قتل وتشريد أهلها..
ولا شك بأن معرفة جواب السؤال الذي عنونّا به هذا المقال سيسوقنا بالتأكيد إلى التعرف على حقنا الأصيل والثابت في فلسطين مما سيعزز من مكانتها في النفوس ويرسخ منزلتها في القلوب. وسوف أعرض لإشارات سريعة مقتضبة ومختصرة على نمط ما يجري في المحاكم من عرض للمزاعم والادعاءات اليهودية والقيام بالرد عليها بشواهد ثبوتية تفندها وتبطلها..
يدّعي اليهود أحقيتهم بأرض فلسطين ويستندون في ذلك إلى عدة مزاعم وأضاليل نوردها فيما يلي مع الرد عليها:
أولاً : السند التاريخي
الزعم:
يقولون بأنهم سكنوا فلسطين منذ قرابة الألف الأول قبل الميلاد ولذلك فهم أحق بها، وقد روجوا لذلك مقولة باطلة قبيل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بال بسويسرا عام 1897م وهي أن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
الرد:
إن فلسطين وطن لشعب عريق هو الشعب الفلسطيني الذي هو جزء من الشعب العربي والأمة الإسلامية وهو مقيم على هذه الأرض منذ أكثر من خمسة آلاف عام، ونؤكد هنا على الحقيقة التاريخية الثابتة التي تفيد بأنّ العرب الكنعانيين واليبوسيين سبقوا الوجود اليهودي في فلسطين بأكثر من ألفي عام، فالكنعانيون سكنوا أرض فلسطين قرابة الألف الثالثة قبل الميلاد قبل أي وجود يهودي، علماً بأن اليهود حقيقة ليسوا شعباً وإنما هم مجموعات من الناس تحمل عقيدة أفسدتها تحريفاتهم للكتب السماوية، وتقيم على أرض هنا أو أرض هناك معزولة عن الناس أو متآمرة عليهم، ولم يقم لليهود وجود سياسي إلا على ما يقرب من نصف مساحة فلسطين في فترة متقطعة خلال 600 سنة على أعلى تقدير ثم سكنها العرب وأسلافهم وملكوها كاملة منذ 25 قرناً متصلة منذ السبي البابلي 587 ق.م حتى الآن منها 14 قرناً في ظل الحكم الإسلامي، بل إن اليهود هم أنفسهم يسمونها في التوراة أرض كنعان!!
وما أصدق قول المؤرخ البروفيسور هـ. ج. ويلز في موجز التاريخ :
"كانت حياة العبرانيين في فلسطين، تشبه حياة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم، فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار. ومن الأول إلى الآخر، لم تكن مملكتهم في فلسطين سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسورية.. ذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم".
ثانياً: السند الديني
الزعم:
يدّعي اليهود بأحقيتهم في أرض فلسطين مستندين إلى نصوص توراتية يحفظونها عن ظهر قلب، منها ما جاء في "سفر التكوين 8:17 " ونصه: (إذ قال الرب لإبراهيم: وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان) وفي رواية في سفر التكوين 18:15 ونصه: (وفي ذلك اليوم قطع الرب على أبرام (إبراهيم) ميثاقاً قائلاً: لك ولنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات من القينيين والقنزينيين والقدمونيين والحيثيين والفرزيين والرفائيين والآموريين والكنعانيين والجورجاشيين واليبوسيين).
الرد:
أما ما يتعلق بالرواية الثانية، فهل يعقل أن يظلم الله الناس بهذا الشكل فيشرّد عشرة أقوام من أوطانهم أو يبيدها ليحل محلها فئة أخرى؟ إنه الكذب والافتراء الذي اعتاده اليهود على رب العباد في أحوال ومواضع كثيرة، وليس عجيباً أن يتم توظيف نصوص دينية واختراع أخرى لتحقيق غاياتهم الخبيثة.. وليس أدل على ذلك من مقولة بن غوريون أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني: "إن الدين في المشروع الصهيوني كالحافلة التي نركبها لتنقلنا من محطة إلى محطة ثم إذا وصلنا نزلنا منه وتركناه".
"إن الدين في المشروع الصهيوني كالحافلة التي نركبها لتنقلنا من محطة إلى محطة ثم إذا وصلنا نزلنا منه وتركناه" بن غوريون
ومع يقيننا بأن حجم التحريف والتزوير للنصوص التوراتية كبير جداً إلا أننا معنيون هنا بإثبات تهافت تلك الأدلة التي ساقها غزاة الأرض المقدسة وعدم صحتها وبالتالي فقدانها لأي شرعية مزعومة، إنني أعلن وبكل ثقة أن هذه النصوص كاذبة للآتي :
أولاً: عدم تحقق الوعد الوارد فيها، ففي التوراة نفسها جاء (ودفنه إسحاق وإسماعيل ابناه في مغارة المكفيلة الحقل الذي اشتراه من بني هث، هناك دفن إبراهيم سارة امرأته) "تك 9:25".
أي أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يملك حتى موضع القبر الذي دفن فيه زوجه سارة إلا بعد أن اشتراه من أصحابه من بني هث!!
ثانياً: شهادات الكتاب المقدس تقول بعدم إنجاز الرب (لوعوده) لإبراهيم رب العائلة وشيوخ إسرائيل، فقد جاء أيضاً في نصوص توراتية: (في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها) "عب 13:11" وفي نص آخر (وقال الرب له (لإبراهيم) أخرج من أرضك ومن عشيرتك وهلم إلى الأرض التي أريك فخرج حينئذ من أرض الكلدانيين وسكن في حاران ومن هناك نقله بعدما مات أبوه إلى هذه الأرض (فلسطين) التي أنتم ساكنون فيها. ولم يعطه فيها ميراثاً ولا وطأة قدم ولكن وعد أن يعطيها ملكاً له ولنسله من بعده ولم يكن له بعد ولد)"اع7-5:3".
ثالثاً: بفرض أن هذه النبوءة صحيحة فمن هم ذرية إبراهيم؟؟! إنهم ذرّية إسماعيل وإسحاق. أي أن الأمر لا يقتصر على ذرية إسحاق عليه السلام الذي ينسب اليهود أنفسهم إليه، فهناك شركاء في إرث إبراهيم عليه السلام وهم ذرية إسماعيل عليه السلام، ولا مجال هنا لإغفال هذه الحقيقة فبالرجوع إلى التوراة سنجد أن هناك أكثر من اثني عشر موضعاً في سفر التكوين تتحدث عن إسماعيل الجد الأعلى للعرب كابن لإبراهيم ومن نسله، أي أن اليهود أنفسهم لا ينكرون بنوة إسماعيل لإبراهيم عليهما السلام ومن هذه النصوص: (فولدت هاجر لأبرام بواسطة الرب ابناً ودعا أبرام ابنه الذي ولدته هاجر إسماعيل}"تك15:16"، ومنها أيضاً: (فأخذ إبراهيم إسماعيل ابنه) "تك23:17"، ومنها: (وهذه مواليد إسماعيل بن إبراهيم الذي ولدته هاجر المصرية) "تك12:25".
"قرأت التوراة جيداً ولم أجد فيها ما يشير إلى ضرورة أن يمتلك اليهود فلسطين" إرنست بيفن وزير الخارجية البريطاني الأسبق.فإن كانوا يصرخون في كل المحافل مطالبين بحق ضائع لورثة إبراهيم من ابنه إسحاق فلماذا لا يحق لأبناء إسماعيل هذا الإرث؟؟ وقد جاء عندهم (فالرب لا يسمح بحقوق المولود الأول أن تتعرض للخطر حتى وإن كان من ذرية المرأة المكروهة) "تث16:21". وعلى ذلك فإن كان الوعد صحيحاً فإن الأرض المقدسة إذن ليست لليهود وحدهم، فللعرب أبناء إسماعيل الحق أيضاً في ذلك الوعد، علماً بأننا لا نقرّ لهم أصلاً بنسبتهم إلى إبراهيم أو أحد من أبنائه الكرام.
وهذا إرنست بيفن وزير الخارجية البريطاني الأسبق يقول:
"قرأت التوراة جيداً ولم أجد فيها ما يشير إلى ضرورة أن يمتلك اليهود فلسطين".
ثالثاً : السند القومي
الزعم:
يزعم اليهود أنهم من نسل يعقوب وإبراهيم وأنهم وحدهم الذين من حقهم وراثة أجدادهم.
الرد:
ليس صحيحاً أن يهود اليوم هم بالضرورة من نسل يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام فقد تم تشريد اليهود عدة مرات كان آخرها عام 70م على يد ثيطس الروماني الذي دمّر القدس وبعثر اليهود وشرّدهم وكان عددهم بالتأكيد قليلاً جداً بالنسبة للجنس البشري واختلطت الأنساب والأعراق، وهذه شهاداتهم بأنفسهم :
- يقول المؤرخ ويلز: "لقد ظلّت اليهودية زمناً طويلاً فاتحة ذراعيها مرحبة بمقدم كل من ينضوي مخلصاً تحت لوائها من أبناء الشعوب الأخرى.. فانتشرت في مناطق متباعدة كاليمن والحبشة والخزر وأواسط أوروبا والمغرب وشعوب مختلفة في الدولة الرومانية".
- يقول المؤرخ اليهودي (ت. ريناك) لقد كان الهوس الديني من أبرز سمات اليهودية خلال العصر الإغريقي الروماني وهي سمة لم تحصل إطلاقاً بنفس الدرجة قبل ذلك ولاشك أن اليهودية حققت بهذه الطريقة تحولاً كبيراً إليها خلال قرنين أو ثلاثة ولا يمكن تفسير التزايد السريع لليهود في مصر وقبرص دون افتراض امتصاص دماء غير يهودية وافرة".
- يقول آخر: "إن أول كتلة كبيرة دخلت اليهودية كانت في اليمن زمن الملك الحميري (تبان أسعد أبو كرب) القرن 5م، وفي عهد ذو نواس في القرن 6م حاول إجبار النصارى على دخول اليهودية.."
- بلغ اعتناق اليهودية ذروته زمن الإمبراطورية الرومانية بين نهاية حكم المكابيين وظهور المسيحيين.. فقد تهوّد عدد كبير من العائلات النبيلة في إيطاليا وتحدث المؤرخ فيلو عن التحول الضخم إلى اليهودية في اليونان.
- كانت أكبر الكتل البشرية التي دخلت في اليهودية من شعوب الخزر (قزوين) فقد ارتأى ملك الخزر اتباع اليهودية نتيجة وقوع بلاده بين الإمبراطورية الإسلامية والبيزنطية ليأخذ موقفاً متوازناً مقبولاً من الطرفين.. ولا أحد يتجرأ أن يزعم أنهم كانوا من نسل إبراهيم أو من نسل إسحاق أو يعقوب أو أحدٍ من الأسباط!!
- الموسوعة اليهودية تقول بأن 82% من "شعب إسرائيل" أشكنازيون أي يهود غير ساميين.
- الكيان الصهيوني الجاثم على أرض فلسطين اليوم يحاول جمع أكبر عدد من اليهود لدعمه بالعنصر البشري، وهو في سبيل ذلك يبحث عن أي جماعات لها من الطقوس ما يشبه طقوسهم، فجلبوا لهم الفلاشا من أثيوبيا، وهم بصدد جلب مجموعات من الهنود من شبه القارة الهندية، وكذلك بعضاً من الهنود الحمر من أمريكا، بل إن حاخاماتهم لا يعترفون بيهودية أكثر المهاجرين الروس.
رابعاً : السند القانوني (الدولي)
الزعم:
يستند اليهود لقرارات الأمم المتحدة التي اعترفت بكيانهم كدولة. ويطالبون العالم بتطبيقها والتعامل معها بصرامة بالغة في وجه كل مشكك لشرعية وجودهم.
الرد:
يمكن الرد على اليهود فيما يتعلق بهذا الشأن من خلال الآتي :
• يعتبر قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة غير قانوني لأنه مخالف أصلاً لميثاق الأمم المتحدة في مواده (10) و(11) و(12) و(14) فالمواد السالفة تحدّد مهمة الجمعية العامة في حفظ السلام والأمن الدوليين وليس من صلاحيتها منح أرض شعب قائم لشعب آخر يجلب من أصقاع الأرض كما أنّ القرار خالف الفقرة (أ) من المادة (7) من الفصل الثاني في الميثاق التي تمنع أي جهة من التدخل في شؤون بلد غير مستقل (خاضع للانتداب) كحالة فلسطين آنذاك.. بالإضافة إلى أن قرارات الجمعية العامة هي عبارة عن توصيات فقط وغير ملزمة.
• بدهي أن وعد بلفور غير قانوني، لأن الوزير البريطاني بلفور وهب أرضاً لا يملكها لمن لا يستحقونها، فإذا كانت "حكومة صاحبة الجلالة تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود" كما ورد في الوعد المشؤوم فليكن ذلك في بلادها وليس في بلاد الآخرين !! ثم إنّ بريطانيا كانت منتدبة على فلسطين وقانون الانتداب يمنعها أن تتصرف بالأرض المنتدبة عليها وشعب الأرض المنتدبة هو الذي يقرر مصيره بنفسه بعد انقضاء فترة الانتداب، بمعنى أن ما فعلته بريطانيا هو خرق لمواثيق وقوانين الأمم المتحدة وخيانة للأمانة التي أوكلت بها.
• إن القوانين الدوليّة لا يمكن الاستناد إليها لأنها ألعوبة بيد اليهود، فهذا أحد الزعماء الأصوليون لليهود يوجه نداء إلى اليهود يقول فيه: "إنه لا يجوز أن يبقى اليهود أوفياء لهذه المبادئ البراقة (القوانين الدولية) إذ أن على "إسرائيل" أن تكسر من وقت لآخر القوانين الدولية وأن تقرر بنفسها ما هو قانوني وما هو أخلاقي وذلك على قاعدة واحدة هي ما هو جيد لليهود، وما هو في مصلحة اليهود، مثال ذلك إذا كانت الشرعية الدولية ضد بناء مستوطنات اليهود فيضرب به عرض الحائط". ولاشك أن ذلك ممارس وملحوظ عملياً حتى وإن لم يتفوهوا بذلك.
خامساً : المستند المنطقي
قد يبدو هذا المستند متناقضاً مع المستند التاريخي، وإنما نسوقه هنا مجاراة لما يدعيه اليهود مفترضين أنهم بالفعل الأسبق وجوداً في فلسطين من العرب (وهو أمر قد فندناه في النقطة الأولى) وأنهم حكموها مدة 600عام منذ حكم داود عليه السلام، ثم ضياعها منهم قروناً أخرى من الزمان.
فهل حكم المسلمين لإسبانيا (800عام) يخول لهم إعادة استعمار إسبانيا قانونياً ودولياً الآن؟ بمعنى هل يوافقهم العالم الحالي على المطالبة بالعودة لحكم الأندلس؟
وهل إذا أراد الهولنديون أن يغيروا على إندونيسيا يعطون الحق بذلك لأن أسلافهم حكموها 3 قرون؟
وهل يستطيع الإيطاليون أن يدَّعوا أن بريطانيا لهم لأن الرومان سيطروا عليها دفعة واحدة تحت حكم قيصر؟
وهل يقبل الأمريكان أن يتركوا أمريكا للهنود الحمر لأنهم هم السكان الأصليون للبلاد؟
ختاما:
اليهود يناقضون أنفسهم ويفضحون حقيقتهم من خلال تصريحاتهم ومن ذلك قول د. ناحوم غولدمان – رئيس المؤتمر اليهودي العالمي في محاضرة له بمدينة مونتريال الكندية عام 1947م "لم يختر اليهود فلسطين لمعناها التوراتي والديني بالنسبة لهم ولا لأن مياه البحر الميت تعطي بفعل تبخرها ما قيمته ثلاثة آلاف مليار دولار من المعادن وأشباه المعادن وليس لأن مخزون أرض فلسطين من البترول يعادل عشرين مرة مخزون الأمريكتين مجتمعتين، بل لأن فلسطين تشكل بالواقع نقطة الارتكاز الحقيقية لكل قوى العالم ولأنها المركز الاستراتيجي العسكري للسيطرة على العالم".
أما روبنسون وهو من صفوة اليهود فيقول في كتابه (إسرائيل والعرب): "ليس بهذا السبب الوجيه يستطيع الإسرائيليون الادعاء بأن لهم الحق التاريخي في هذا الجزء من الأرض لأن بعضاً من أجدادهم فرضاً قد قطنوا فيها منذ ألفي سنة!! ومن ناحية أخرى فعليهم أن يدركوا أنهم قد فعلوا نفس الإساءة لشعب آخر في حرمانهم من حقوقهم التي لا تقل في عظمها عن حقوقهم هم أنفسهم في أقل تقدير.. إن للعرب حقوقاً في فلسطين كحقوق الفرنسيين في فرنسا وحقوق الإنجليز في إنجلترا!!".