ففي هذا الحديث الشريف الذي يعدّ من جوامع كلم الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم، وممَّا أكَّد شارحو هذا الحديث أنَّ الصّيام ركنٌ من أركان هذا الدِّين، وشعيرة من شعائره المعتبرة التي وجب على المسلمين تنفيذها على الوجه الأكمل، وفريضة من فروض الأعيان التي لا تسقط بإقامة البعض عن الباقين، وفي موطأ الإمام مالك رضي الله عنه : (عن ابن عبَّاس قال حمَّاد: (لا أظنه إلاَّ رفعه). قال: (عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة بني الإسلام عليها من ترك منهن واحدة فهو حلال الدَّم شهادة أن لا إله إلاَّ الله والصَّلاة وصيام رمضان). قال ابن عبد البر في ((التمهيد)): (في حديث مالك من الفقه أنَّه لا فرض من الصِّيام إلاَّ صوم شهر رمضان).
والصّيام عنوان الإيمان الصّادق، إذ هو سرُّ بين العبد وربّه، ولا يطّلع عليه إلاَّ الصَّائم وربّه عزّ وجل، وذلك كان الصوم لله سبحانه، كما ورد في الحديث القدسي الصَّحيح : ((عن النبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم، قال: ((يقول الله عزَّ وجلَّ: الصَّوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي...)). (أخرجه البخاري ومسلم).
وكلّما كانت العبادة سرّاً بين العبد وربّه كانت قائدة لصاحبها إلى الإيمان العميق والصّلة الوثيقة مع المولى سبحانه، فصلاة الليل مدعاة إلى زيادة الإيمان ومقربة منه تعالى، وصدقة السرّ تطفئ غضب الرَّب، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاَّ ظله، وعينان لا تمسهما النَّار؛ أمَّا الأولى فباتت تحرس في سبيل الله، وأمَّا الثانية فبكت من خشية الله، وكلاهما في السّر وظلمات الليل.
وعبادة الصّيام في شهر رمضان تحقّق تلكم المعاني السّامية، فتسمو بالصّائم في رحاب الإيمان الصَّادق لله تعالى، وتحلّق بنفسه في صفاء وطهر ونقاء، فنهار الصّائم صوم عن الملذات والشهوات، ومحافظة على الصلوات في أوقاتها وتلاوة القرآن، وفي معاملاته مع النّاس تحدوها الكلمة الطيّبة، والصّدق في القول والعمل، وليل الصّائم قيام وتهجد ودعاء وابتهال، وفي شهر الصيام يتصدّق على الفقراء والمساكين وتخرج فيه الزكاة، وفيه زكاة الفطر.
الصّيام عنوان الإيمان الصّادق، إذ هو سرُّ بين العبد وربّه، ولا يطّلع عليه إلاَّ الصَّائم وربّه عزّ وجل، وذلك كان الصوم لله سبحانه
ويذكر هنا الحديث الصَّحيح الذي يربط بين الإيمان والاحتساب مع صوم رمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلّم: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدَّم من ذنبه)). (أخرجه البخاري ومسلم).
قال الإمام ابنُ الأثير في (النهاية) : (أي: طَلَبا لوجْه اللّه وثوابه . فالاحتِسَاب من الحسَب كالاعْتِداد من العَدّ وإنما قيل لمن يَنْوي بعَمَله وجْه اللّه احْتَسَبه لأن له حينئذ أن يَعْتَدَّ عَمله فجُعِل في حال مبُاشَرة الفِعل كأنه مُعْتَدٌّ به . والحِسْبةُ اسم من الاحْتِساب كالعدَّة من الاعتداد والاحْتِساب في الأعمال الصَّالحة وعند المكروهات هو البِدَارُ إلى طَلَب الأجْر وتحصيله بالتَّسْليم والصَّبر، أو باستعمال أنواع البِرّ والقِيام بها الوجْه المرْسُوم فيها طَلَباً للثَّواب المرْجُوّ منها).
إنَّ صيام شهر رمضان حقّ الصيام هو السبيل إلى تحقيق الإيمان الصّادق، لما يحويه هذا الشهر الكريم من أنواع العبادات ومحطّات القُربات وسُبل الخيرات، اللهمَّ اجعلنا من الذين يصومون نهار رمضان ويقومون ليله إيماناً واحتساباً .