شهد شهر رمضان رحلة تنزل القرآن على خير البشرية، وكان روحاً ومعيناً راوياً لأبناء الرعيل الأول من المسلمين، فكان منهم الحفظة والمتعبدين والقرّاء.. فقهوا ما وراء حروفه بعدما جمعتها منهم الصدور، وطبقوا ما نصّت عليه الآي والسور، فكان لهم سؤدد وعزّ، ودام الحال إلى أن جاء بعدهم أقوام نسو كلام الله فأنساهم أنفسهم، وظنوا أنَّ كتاب الله مجرّد حروف تتلى في المناسبات والمحافل الدينية، فصارو إلى حال من الضياع والبعد عن الله..
علاقة السَّلف الصالح بالقرآن الكريم، وكيفية الاقتداء بهم؟ كيف يجعل المسلم من رمضان نقطة انطلاق بداية جديدة؟ وما الواجب عليه تجاه كتاب الله؟ والعديد من الأسئلة الأخرى يجيب عنها الدكتور ابراهيم الكيلاني رئيس جمعية المحافظة على القرآن الكريم في الأردن.
بصائر: كيف يمكنك أن تصف لنا علاقة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والصَّحابة والسَّلف الصالح بالقرآن الكريم في شهر رمضان؟
د. إبراهيم الكيلاني: يقول الله تعالى في سورة الزمر: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ.." لقد كان الصحابة يستمعون بوعي ويتبعون، وقد روي عن الصَّحابة قولهم: إنَّ الرَّسول كان يعلمنا القرآن فلا نتعلم الآياتِ التي بعدها إلى بعد أن نعمل بما قبلها، فتعلمنا القرآن والعمل معاً.
ويصف أثر القرآن في قلوبهم قوله تعالى: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليتدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص:29] ، وفي آية اخرى يقول تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [سورة الزمر:23] ، هذا وصف لتأثير القرآن عليهم _ أي: الصَّحابة_ وما كان هذا إلاَّ بالقراءة المتدبرة لكتاب الله..
وقد وصفهم أحد فرسان الأدب بقوله: شباب والله مكتهلون بشبابهم، غضيضة عن الشرّ أعينهم، ثقيلةٌ عن الباطل أرجلهم، أنضاءُ عبادةٍ وأطلاحُ سَهَر، نظر اللَّه إليهم في جوف الليل منحنيةً أصلابهم على أجزاء القرآن الكريم، كلَّما مر أحدُهم بآيةٍ من ذكرالجنّة بكى شوقاً إليها، وإذا مَرّ بآية من ذكر النار شَهِقَ شَهقة كأنّ زفير جهنّم بين أذنيه،موصولٌ كَلاَلهم بكلالهم[ أي تعب النهار بتعب الليل] كَلالُ الليل بكلال النهار، قد أكلت الأرضُ رُكَبَهم وأيديَهم، وأنوفَهم وجباهَهم، واستقلّوا ذلك في جنْب اللَّه، حتّى إذا رأوا السّهامَ قد فُوِّقَت، والرِّماحَ قد أُشرِعَت، والسيوفَ قد انتُضيَتْ، ورَعَدت الكتيبةُ بصواعق الموت وبرقت، استخفُّوا بوعيد الكتيبة لوعْد اللَّه، ومضى الشابُّ منهم قُدُماً حتى اختلفت رِجلاهُ على عنق فرسه، وتخضَّبت بالدّماء محاسنُ وجهه ،فأسرعَتْ إليه سباعُ الأرض، وحطّت علَيه طيرُ السّماء، فكم من عينٍ في منقارِ طائرٍ طالما بكى صاحبُّها في جوف الليل من خوف اللَّه!، وكم من يد زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها بالسجود لله... هؤلاء هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه صلتهم بالقرآن الكريم، تعظيم له، واتباع صادق.
بصائر: كيف يجعل المسلم من رمضان بداية حياة جديدة له مع القرآن الكريم؟ خاصة وأنَّ الكثير من الناس بعد رمضان يهجرون التلاوة والتدبر، وكأنَّ القرآن متعلّق بهذا الشهر وحسب؟
إنَّ المسلمين إذا تابوا توبة نصوحاً خلصت قلوبهم من الإثم والمعصية، وعرفوا أنَّ الله هو ربّ شهر رمضان ورب الشهور والأعوام، فلم يقتصروا على صلتهم بالقرآن في شهر رمضان فقط.
د.إبراهيم الكيلاني: هذا الأمر يرجع إلى معنى التوبة التي يمارسها الكثيرون من المسلمين في شهر رمضان وينسونها بعد رمضان، إنَّ المسلمين إذا تابوا توبة نصوحاً خلصت قلوبهم من الإثم والمعصية، وعرفوا أنَّ الله هو ربّ شهر رمضان ورب الشهور والأعوام، ولما كانت صلتهم بالقرآن الكريم، قاصرة على رمضان وحسب، إنَّ شهر رمضان هو فرصة لتعبئة روحية للقلوب والنفوس حتَّى يستمر المسلم بعد رمضان على طريق الهدى والخير.. وكما قال الشاعر:
يرب الذي يأتي من الخير إنه اذا فعل المعروف زاد وتممه
ولــــــــــــيس كبانِ حين تم بناءه فأتبعه بالنقض حتى تهدما
إنَّ الذي يعمل الخير والطاعة يزيد فيها، ولا ينقصها ويسعى في زيادتها، وهذا الذي عمَّر شهر رمضان بالقرآن والأذكار والأعمال الصَّالحة والعبادات، ينبغي أن يستمر مع الله حتى بعد انقضائه، لأنَّه لا يعرف متَّى يأتيه الموت، ولا يعرف متّى يلقى الله، والأعمال بخواتيمها..وهؤلاء الذين يقرأون القرآن في رمضان وينسونه بعد رمضان نخشى عليهم. ومن تذوق حلاوة العبادة وحلاوة التلاوة لا يمكن ان يتركها.
بصائر:: برأيك، ما الواجب المطلوب من الفرد المسلم تقديمه لخدمة القرآن الكريم، وبالذَّات في رمضان؟
من صور خدمة القرآن الكريم، إضافة للتلاوة والحفظ، التعليم، ودعم دور القرآن بالمال، وإرسال الأبناء إليها، وتشجيعها والإشادة بإيجابياتها والدراسة فيها.
د.إبراهيم الكيلاني: فتح الله لنا باب الخير والطَّاعة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" فخدمة القرآن ليست محصورة بالتلاوة والحفظ، بل بالتعليم أيضاً، ومراكز التحفيظ عندنا والله الحمد منتشرة ولديها برامج وخطط وأساتذة ومعلمون المدرسون للقرآن، ولا شكَّ أنَّ هذه المراكز بحاجة إلى الدعم المادي والدَّعم المعنوي، فمساعدة دور القرآن ليس بالمال فقط، وإنَّما بالتعامل معها وإرسال أبنائنا إليها، و تشجيعها والإشادة بإيجابياتها والدراسة فيها، فهذه مساعدة في دعم القرآن،، والله تعالى يقول في كتابه العظيم، "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" ولنعلم أنَّ أهل القران هم الذين يحفظون هُوية الأمَّة، ويحفظون الأمّة ويصونون الأوطان...
إنَّ هذا القرآن أمانة الله في أيديكم فاحفظوا أمانة الله .. إنَّ هذا القرآن عهد الله الوثيق الذي وصلكم به بربّ السّماوات والأرض
ولن تجدوا يوم القيامة مظلة تستظلون بها من حرّ نار جهنم إلاَّ في ظل هذا القران...وخيركم من استظل بنور هذا القرآن في الدنيا ليظله يوم القيامة.
بصائر:كما هو معلوم ... تحاول الفضائيات سرقة رمضان منا في كلّ عام بما تبثه من مسلسلات وبرامج تافهة، فما هي نصائحكم للتعاطي مع هذه المشكلة ؟
د.إبراهيم الكيلاني: إنَّ الفضائيات التي تفتح للناس أبواب اللَّهو في شهر رمضان تريد أن تصدهم عن هدي الله تعالى وعن سنة النبيّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم، تريد من الناس الذهاب لخيام السهر وخيام الغناء وخيام اللهو، لتصدهم عن سبيل الله، بدلاً أن يذهبوا إلى المساجد ويعبدوا الله كما شرع لهم، هذه الفضائيات الفاجرة التي تغزو بلاد المسلمين تحاول صد العباد عن دينهم، وتقتل في الشباب قيم الرجولة وأخلاق الإسلام. ولذلك ينبغي محاربتها بالانصراف عنها للعبادة والطَّاعة والترفيه المباح، وينبغي على الوالدين أن يحسنا توجيه أبنائهم وتنبيههم من هذا الخطر، ويعرفا أنَّ الله سيسألهم عن أولادهم، يقول تعالى في كتابه العظيم: { يا أيها الذين آمنوا قو انفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة...} [التحريم:6].
بصائر: أيّهما أفضل؟ أن يتلو المسلم القرآن بتدبر وتأمل، وتكون ختماته قليلة ربّما لا تتجاوز ختمة أو ختمتين؟ أم يكثر من التلاوة السَّريعة ويكون له إنجاز أكثر من الختمات في شهر رمضان؟
د. إبراهيم الكيلاني: إنَّ الأفضل أن يسلك المسلم طريق التدبر، ويمكنه أن يجمع بين الأمرين، أن يجعل بعض وقته للقراءة والتفسير، ويجعل وقت آخر للتلاوة السَّريعة حتَّى يجمع بين الحُسنين.