ارتبط اسم الشيطان بأوّل غواية وقعت في البشرية؛ حيث زيّن وغوى آدم عليه السَّلام وزوجه حواء، قال الله سبحانه: {فأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}. (البقرة:32). ومن ثمَّ أصبح الشيطان هو العدوّ اللدود لبني البشر على مرّ التاريخ والعصور، يوقعهم في المهالك ويزيّن لهم الشهوات، ففي غزوة بدر يخبرنا المولى عزّ وجل عن فعلته : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}. (آل عمران:155).
وهو الذي يوقع المسلمين في محارم الله، في شرب الخمر والميسر وترك الصلاة :{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}. (المائدة:91). وهو الذي ينسي عبادَ الله ورسله في القعود مع الخائضين في آيات الله من الظالمين : {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. (الأنعام:68).
في شهر رمضان تنبعث القلوب إلى الخير والأعمال الصالحة التي بها وبسببها تفتح أبواب الجنة، ويمتنع من الشرور التي بها تفتح أبواب النار، وتصفد الشياطين فلا يتمكنون أن يعملوا ما يعملونه في الإفطار
ولحثّ المؤمنين على اجتناب وسوسته ومكره وغوايته، حفل القرآن الكريم بالآيات التي تبيّن خطره وبأنَّه عدوّ مبين، قال الله تعالى:{ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}. (البقرة:168)، وقال سبحانه :{ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}. (الأنعام:143). وقال عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}. (النور:21).
وبآيات تدلّهم على سبيل اجتناب نزغه وحبائله، قال الله تعالى:{ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}. (الأعراف:200-201).
ومن رحمة الله سبحانه بعباده المؤمنين أن جعل لهم موسماً في العام تصفّد في الشياطين عن ممارسة أعمالها في الوسوسة والغواية، فلا يستطيعون أن يوقعوا المؤمنين في حبائلهم وشراكهم؛ هذا الموسم هو شهر رمضان المبارك، ففي الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلّم قال : ((إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنَّة وغُلِّقت أبواب النار وصُفِّدت الشياطين)).
قال بعضُ شرّاح هذا الحديث: (وإنَّما تفتح أبواب الجنة في هذا الشهر لكثرة الأعمال الصَّالحة وترغيباً للعاملين، وتغلق أبواب النار لقلة المعاصي من أهل الإيمان، وتصفد الشياطين فتُغَلُّ فلا يخلصون إلى ما يخلصون إليه في غيره). وقال بعضهم : (يحتمل أنه على ظاهره حقيقة ويحتمل المجاز ويكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم فيصيرون كالمصفدين).
ويعلّل الإمام ابنُ تيمية تصفيد الشياطين في شهر رمضان بقوله: (وما ذاك إلاَّ لأنَّه في شهر رمضان تنبعث القلوب إلى الخير والأعمال الصالحة التي بها وبسببها تفتح أبواب الجنة، ويمتنع من الشرور التي بها تفتح أبواب النار، وتصفد الشياطين فلا يتمكنون أن يعملوا ما يعملونه في الإفطار؛ فإنّ المصفد هو المقيّد، لأنَّهم إنَّما يتمكنون من بني آدم بسبب الشهوات، فإذا كُفّوا عن الشهوات صفّدت الشياطين).
المعاصي في رمضان ؟!
يجيب الإمام السيوطي في كتابه (الديباج على صحيح مسلم) عن سؤال : كيف نرى الشرور والمعاصي تقع كثيراً في رمضان وقد صفّدت الشياطين، فلو كانت كذلك لم نر هذه الشرور والآثام ؟ يقول : (الجواب من أوجه؛ أحدهما: إنّما يغل عن الصّائمين صوماً حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، أمَّا ما لم يحافظ عليه فلا يغل عن فاعله الشيطان.
الثَّاني: لو سلّم أنّها مصفّدة عن كلِّ صائم، فلا يلزم ألاّ يقع شرٌّ، لأنَّ لوقوع الشر أسباباً أخرى غير الشياطين؛ وهي النفوس الخبيثة والعادات الرَّكيكة والشياطين الإنسية.
الثالث: أنَّ المراد غالب الشياطين والمردة منهم، وأمَّا غيرهم فقد لا يصفد، والمراد تقليل الشرور، وذلك موجود في رمضان، فإنَّ وقوع الشرور والفواحش فيه قليل بالنسبة إلى غيره من الشهور).
كأنَّ الحق سبحانه أراد أنْ يكشف ابن آدم : ها أنا قد صفَّدْت الشياطين ومع ذلك تذنبون
بين تزيين النَّفس وتزيين الشيطان ..
لا شكَّ أنَّ هناك فرقاً بين تزيين الشيطان وتزيين النفس في رمضان، يقول الشيخ الشعراوي: (لأنَّ النفس مدخلاً في المعصية، فكيف نفسٍّر وقوع كثير من النَّاس في الذنوب والمعاصي خلال هذا الشهر الفضيل، فلو كانت الذنوب كلها بسبب الشيطان لم نجد من يذنب في رمضان، إنَّما هناك كثيرٌ من الذنوب تُرتكب في رمضان، وهذا يعني أنَّها من تزيين النفس، وكأنَّ الحق سبحانه أراد أنْ يكشف ابن آدم : ها أنا قد صفَّدْت الشياطين ومع ذلك تذنبون. فإنْ أردتَ أنْ تعرف هل المعصية من النفس أم من الشيطان، فإن النفس تقف بك عند معصية بعينها لا تريد سواها، ولا تنتقل بك إلى غيرها، وتظل تُلح عليك إلى أنْ تُوقِعك فيها، أمَّا الشيطان فإنَّه يريدك عاصياً بأية صورة وعلى أية حال، فإنْ تأبَّيْتَ عليه نقلك إلى معصية أخرى).