أعداء الإصلاح .. مقال نادر لجمال الدين القاسمي

الرئيسية » بصائر الفكر » أعداء الإصلاح .. مقال نادر لجمال الدين القاسمي
alt

وقع بين يديَّ مقال لعلاَّمة الشام محمّد جمال الدين القاسمي المتوفى سنة 1932م، تحت عنوان : (أعداء الإصلاح)، كتبه على صفحات مجلة (المقتبس) بتاريخ 6 ذي الحجة 1329هـ الموافق لـ 7 ديسمبر (كانون الأول) 1910م،  وهي المجلة التي أنشأها محمّد كرد علي، وكانت تصدر في دمشق كلَّ شهر عربي، وكتب تحت اسمها بأنَّها (مجلة تبحث في التربية والتعليم والاجتماع والاقتصاد والأدب والتاريخ والآثار واللغة وتدبير المنزل والصحة والكتب وحضارة العرب وحضارة الغرب)، هذا المقال ورد في الجزء الثاني عشر من المجلد السَّادس، وفي الصَّفحة السَّابعة والثلاثين بعد المئة السَّابعة.

بدأ الشيخ محمّد جمال الدين القاسمي - رحمه الله - مقاله بهذه الأبيات :
الطرق شتى وطرق الحق مفردة    والسَّالكون طريق الحق أفراد
لا يعرفون ولا تدري مقاصدهم      فهم على مهلٍ يمشون قصَّاد
والنَّاس في غفلة عمَّا يراد بهم        فجلّهم عن سبيل الحق رقاد

ثم ذكر أنَّ عصور الإسلام المتلاحقة لم تخلُ من أعداء لكلِّ جديد، ومن جامدين ينكرون كلَّ ما لا يألفون، ويدلّل على ذلك بقوله: (لقد لقي المعتزلة والفلاسفة المتكلمون والنظَّار من أعداء العقل كلَّ شدَّة في القرون الرَّاقية، وكان عقل الملوك هو الذي يحول على الأغلب بين الجامدين وبين ما يشتهون من الاعتداء على القائمين بتأييد سنن العقل والنَّاصرين بأقوالهم وأفعالهم مذاهب السنّة والنقل).

ويلفت الأنظار إلى أنَّ من يتفحَّص سيرة المناهضين للمصلحين على اختلاف الأعصار بنظرة حيادية وموضوعية، يجدهم جروا على غير ما يعتقدون، وطلبوا بمقاومة المصلحين إرضاءَ العامة ونيل الحظوة لديهم واستتباع الجاهلين من الملوك والسلاطين، وقليل جداً من كان الإخلاص رائدهم في أعمالهم ومآتيهم، ويضرب الشيخ القاسمي لذلك مثالاً فيقول: (يقاوم في العادة الخامل النابه لتكون له مكانة كمكانته، ويتحامل الجاهل على العالم ليعرف بين قومه بأنه قسيمه في صناعته ومثيله في فضيلته...).

سببُ العِداء ...
ويكشف علاَّمة الشَّام في مقاله أنَّ المصلحين في الأمة العربية لقوا أكثر ممّا لقيه أمثالهم في الأمم الأخرى، خصوصاً بعد القرن السَّابع، وقد توزعت بلاد المسلمين ملوك الطوائف، أكثرهم على جانب من الغباوة والجهل، حوّلوا العامة إليهم ليقوى بهم ضعفهم ويستعينون بهم على تكبير رقعة ممالكهم وبسط ظل سلطانهم، ويعلّل سبب الانتقام من العلماء العاملين كثرة الصراعات المذهبية التي أنتجت أناساً لا يعملون فكرهم وعقلهم وقد أعماهم التعصب المذهبي المقيت، الذي أدّى إلى إراقة الدّماء.

يقول القاسمي: (سالت الدماء كالأودية في بغداد للفتن بين الحنابلة والشافعية مرات، وسالت دماء كثير من الخاصة في كل قرن، وعذّبوا وأوذوا بواسطة أرباب المظاهر المتنطعين ممّن شق عليهم أن يروا كلمة الإصلاح الديني والدنيوي تفعل في الأرواح فعلها المطلوب، فحدثتهم أنفسهم أن يتساوى المفكرون وغيرهم في نظر العامة إن لم يتمكنوا من إسقاطهم ليخلو لهم الجو، ويقتصر في تقبيل ألأيدي وطلب الدّعوات والتماس البركات عليهم دون سائر المنتسبين للعلم والشريعة).

وصف العلاَّمة القاسمي أعداء الإصلاح بأنهم حملة أهواء لا حملة شريعة.
سمات أعداء الإصلاح
وصف العلاَّمة القاسمي أعداء الإصلاح بأنهم حملة أهواء لا حملة شريعة، وجعاب لغو وحشو لا قوَّام على ما يقوّم العقل، سلاحهم المغالطة، ومجنهم السفسطة، رأس مالهم الثرثرة، وربحهم الغلبة بالباطل، والمهارة في المهاترة على غير طائل، مناهم من دينهم ودنياهم أن تفخَّم ألقابهم، وتملأ كراشهم وعبابهم، وترفع بين الغاغة منازلهم، ويزيدوا بسطة في الجسم لا في العقل، وتكتب لهم في العالمين شهرة بعيدة بدون أن يعدّوا لها أداة من أدواتها، ويصرفوا في التَّحصيل ساعة من أوقاتهم، دأبهم الحطُّ من الفضلاء، يرقعون ويلفقون ويماحكون، يعادون ما يجهلون، يفتون وهم لا يعلمون، يعدّون علوم البشر ذرة من معارفهم، ويحتقرون مالا تبلغه مداركهم، كأنَّ فضل الله محصور فيهم، وكأنَّ من يجري على هواهم محروم من السعادة هالك، أولئك هم ثعالب الإنس يأكلون لحم إخوانهم بالغيبة والوشاية ...

هم أضرّ على النَّاس من قطَّاع السابلة، وأفسد في جسم المجتمع من الأدواء القاتلة، يرجعون بالأمة القهقرى، والدّواعي تهيب بها إلى التقدّم، ويزينون لها الفناء والعدم، والمصلحة قاضية بالتماسك والتعاون،  ويملون لها الذل والصغار، وركوب متن العار، والحالة تدعو إلى تحكيم العقل في كل قول وفعل.

يقول العلامة القاسمي:  "ومن غريب أسرار الله في خلقه أنَّ جميع من قاوموا المخلصين من المصلحين دثروا ودثرت أسماؤهم"
أين أعداءُ المصلحين ؟
يقول الشيخ  القاسمي رحمه الله : (ومن غريب أسرار الله في خلقه أنَّ جميع من قاوموا المخلصين من المصلحين دثروا ودثرت أسماؤهم، وظلت أسماء من عادوهم وآذوهم تشهد بالجهل المركَّب على أعداء العقل السليم والتعاليم الصحيحة ... أين أعداء الغزالي، والسَّهْرَوَردِي، والآمدي، وابن جري، وابن تيمية، وابن رشد؟؟ ذهبوا كلهم كأمس الدّابر، وبقيت الأمَّة تردّد على وجه الدَّهر أسماء هؤلاء المصلحين العاملين، وتتناقل ما خطته أناملهم من سطور الإصلاح. قال الله تعالى :{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}. (الرَّعد:17).

ثمَّ يردف قائلاً: ( لا يذكر التاريخ اليوم إلاَّ أفراداً ممّن ناوءوا رجال العقل الرّجيح والنقل الصحيح اشتهروا لاحتكاكهم بالحكَّام، وموَّهوا على العامة بحسن حالهم لمظهر دنيوي أرادوه وحطام  من الدنيا تطالت نفوسهم لأن يقتنوه، كأن يكون أحدهم قاضياً يخاف أن يشركه ذاك العالم المستنير في قضائه، أو شيخ عامة حدثته نفسه بالاستئثار بهذا المظهر الذي يعتقده جماع فضائل الدنيا والآخرة).


خطر أعداء الإصلاح ..
يصف العلاّمة القاسمي أعداء الإصلاح بقوله : ( أمثال هؤلاء بدلوا المعالم والتعاليم مرضاة لأرباب الرئاسات والزعامات، وسجلوا على أنفسهم العار للبت فيما لم ينزّل به سلطان، وجاوزوا حدّ الشرع وهم يتظاهرون بأنَّهم المؤتمنون عليه، ومنهم ومن أعمالهم يشكو ويئن كما تشكو المدنية والإنسانية).

ويقول: (إنَّ من يتظاهرون بالدين وباطنهم منه بريءٌ أضرّ على الدين ممن يعقونه، ومن يدعو في الغالب إلى الإصلاح ويتخذ التقية أمام العامَّة درعه يكون أقرب إلى الانحلال والضلال منه إلى من لا يطنطنون بأنهم دعاة الدين والقائمون عليه، وعنهم يؤخذ، ويهديهم يهتدى،  وشرّ النّاس من يسرّون غير ما يظهرون، ويتلونون باللون الذي يرون أنه أوفق لهم لجرّ مغنم وإحراز مظهر).
يؤكّد القاسمي على أنَّ الذين يتطالون مقامات العلماء هم أفسد من العامة، لأنَّ شيطانهم يتكلّم وشيطان هؤلاء أخرس لا يبدي ولا يعيد.
ويؤكّد على أنَّ الذين يتطالون مقامات العلماء هم أفسد من العامة، لأنَّ شيطانهم يتكلّم وشيطان هؤلاء أخرس لا يبدي ولا يعيد، ويصفهم بأنهم هم سوس الفساد في كيان هذا المجتمع يدّعون معرفة كل شيء، وهم لم يتقنوا شيئاً إلاَّ ما سوّلته لهم أنفسهم وحدثتهم به شياطينهم...

شعارهم التدليس والتظاهر بالغيرة على المحارم،  ولو بحثت عن أعمالهم لرأيتهم أول المجترئين على انتهاك حرمات الأديان والشرائع، وهم  يقدّسونها بلسانهم والعابثين بحدودها، وهم يدعون النّاس إلى الوقوف عند مراسيمها والسعاية بالمصلحين ليفتّوا في أعضادهم ويفسدوا عليهم أمرهم، ويأبى  الله إلاَّ أن يتم نوره، لوكره أبالسة التدجيل والتضليل من علماء السوء.

وينصح الشيخ القاسمي للاستزادة من هذه الفكرة إلى ضرورة مراجعة فصل من فصول الإحياء للإمام الغزالي بعنوان: ( بديعة في علماء السوء).

الختام بالدّعاء ..
وختم العلاَّمة القاسمي مقاله بهذا الدعاء : ( اللهمَّ ثبّت أقدام المصلحين، وهيّىء لهم من الكفاءة ما يقوون به على ردّ غارات أعداء الأمّة في إصلاحها، فقد كفاها جهلاً وضلة بما كسبت أيدي المنافقين، وما جلبوا عليها من الخزي المبين { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ... وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}. (الفرقان : 36 و72).

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …