لا يزال الطَّمع في القضاء على الدّعوة الإسلامية في مهدها يراود صناديد قريش وزعماؤهم في كلِّ وقت وحين، تراهم يتربصون بالعصبة المؤمنة التي آمنت بالرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم الدوائر، ويحاصروهم اجتماعياً واقتصادياً، ويمارسون ضدّهم أبشع أنواع الإيذاء النفسي والجسدي.
فبعد الهجرة النبوية أرادت قريش أن تري المسلمين أنَّ لها يداً في داخل المدينة، وأراد المسلمين أن يروا قريشا أنَّ المسلمين ليسوا بذلك الهوان الذي تتصوَّر قريش، وأنَّهم قادرون على كسر شوكة قريش وحصارها سياسياً واقتصادياً وردّ حقوقهم المسلوبة.
في هذه الأثناء وقعت غزوة من أعظم الغزوات التي أيّد الله سبحانه فيها عباده المؤمنين ونصرهم نصراً مبيناً ..
إنَّها غزة بدر الكبرى .. المعركة التي لم تكن في حسبان جيش المسلمين الذين خرجوا لمطاردة قافلة تجارية لقريش قادمة من الشَّام يقودها أبو سفيان بن حرب، كمحاولة جديدة لاسترداد بعض أموال المسلمين التي صادرتها قريش، ولكن قضى الله أمرًا غير الذي أراده المسلمون، وكانت المواجهة العسكرية التي انتهت بنصر حاسم للمؤمنين.
الله تبارك وتعالى أراد لعباده غنيمة أكبر ونصراً أعظم وعملاً أشرف، وأكثر انسجاماً مع الغاية التي ينبغي على المسلم أن يقصدها في حياته كلها
وفي ثنايا هذه الغزوة مواقف ذات عبر ودلالات نقف عندها في هذه الأسطر:
الموقف الأوَّل: غير ذات الشوكة والغنيمة الأكبر
إنَّ الدَّافع الأصلي لخروج المسلمين لم يكن القتال والحرب، وإنما كان الدافع الاستيلاء على عير قريش، غير أنَّ الله تبارك وتعالى أراد لعباده غنيمة أكبر ونصراً أعظم وعملاً أشرف، وأكثر انسجاماً مع الغاية التي ينبغي على المسلم أن يقصدها في حياته كلها، ألا وهي الدَّعوة إلى الله والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، وهذه التربية الإلهية لنفوس المسلمين تتجلى بأبرز صورها في قوله تعالى : {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}. (الأنفال:7 - 8 ).
الموقف الثاني: الشورى أساس تشريعي دائم
أجمع المسلمون على أنَّ الشورى في كلِّ ما لم يثبت فيه نص ملزم من كتاب أو سنة أساس تشريعي دائم لا يجوز إهماله
كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم ملتزماً بمبدأ الشورى مع أصحابه، ففي هذه الغزوة استشار النبي عليه الصَّلاة والسَّلام صحابته، ووضعهم أمام الوضع الرَّاهن؛ إمَّا ملاقاة العدو، وإمَّا الهروب إلى المدينة .. فقال لجنوده: ((أَشِيرُوا عَلَيّ أَيّهَا النّاسُ))، ولا زال يكرِّرها عليهم، فيقوم الواحد تلو الآخر ويدلو بدلوه ويعطي رأيه بكل حريّة وشفافية، فأشار المهاجرون، فلم يكتف، ثم استشار الناس فأشار الخزرج والأوس ثم اتخذ قراره الأخير في الحرب حتى يمحو أي تردد عن أي نفس.
وإذا استعرضنا حياته وجدنا أنه كان يلتزم هذا المبدأ في كل أمر لا نصَّ فيه، ومن أجل هذا أجمع المسلمون على أنَّ الشورى في كلِّ ما لم يثبت فيه نص ملزم من كتاب أو سنة أساس تشريعي دائم لا يجوز إهماله.
يقول الشيخ سعيد حوّى رحمه الله في كتابه (الرسول صلَّى الله عليه وسلّم):( إنَّ الشورى في فن السياسة عملية تستجمع فيها طاقات العقول كلها لاستخلاص الرأي الصالح ، ويتحمل فيها كل فرد مسؤولية القرار النهائي ، ويقتنع فيها كل فرد بالنتيجة . فيندفع نحو المراد بقوة ، وترتفع بها ملكات الفرد وروح الجماعة . ويبقى الإنسان فيها على صلة بمشاكل أمته وجماعته ، ولذلك جعل الله أمر المسلمين شورى بين المسلمين، حتى يتحمل كل فرد من المسلمين المسؤولية كاملة ولا يبقى مسلم مهملاً).
إنَّ الاستغراق في التضرّع والدّعاء وبسط الكف إلى السماء وظيفة العبودية التي خلق الإنسان من أجلها، وذلك هو ثمن النصر في كلِّ حال
الموقف الثالث : التضرّع لله عنوان العبودية وسبيل النَّصر
كان رسول الله يطمئن أصحابه بأنَّ النصر لهم حتى إنَّه كان يشيرُ إلى أماكن متفرقة في الأرض، ويقول: (هذا مصرع فلان)، وكان يعلم يقينًا أنَّه سينتصر إلا أنَّه وقف صلى الله عليه وسلم يدعو ويجأر بالدُّعاء متضرِّعاً باسطاً كفيه إلى السّماء يناشد الله عزّ وجل أن يؤتيه النَّصر الذي وعده، حتّى يحقِّق كمال التوحيد لربِّه جلّ وعلا، ويظهر من نفسه كمال العبودية، فأظهر صلى الله عليه وسلم في يوم بدرٍ كمال العبودية لله والتضرع وسؤال الله وهو يعلم عليه الصلاة والسلام يقينًا أنه مُنتصر لأنه قال لأصحابه قبل أن يصل إلى العريش: (امضوا، فإنَّ الله وعدني إحدى الطائفتين )، فهو مُتحققٌ من وعد الله له، لكنَّه فعلها ليظهر عبوديته لربِّه سبحانه، وهذا أحد أعظم أسباب عُلُوِّ شأنه على جميع الخلق صلوات الله وسلامه عليه.
إنَّ الاستغراق في التضرّع والدّعاء وبسط الكف إلى السماء وظيفة العبودية التي خلق الإنسان من أجلها، وذلك هو ثمن النصر في كلِّ حال، فما النصر مهما توفرت الوسائل والأسباب إلاَّ من عند الله وبتوفيقه.
قال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}. ( الأنفال:9).
الإمداد بالملائكة هو بعض ثمرات إيمان تلك العصبة المجاهدة
الموقف الرَّابع : التأييد الإلهي للعُصبة المؤمنة الصَّادقة
انطوت هذه الغزوة على معجزة من أعظم معجزات التأييد والنصر للمسلمين الصَّادقين، حيث أمَّد الله المسلمين فيها بملائكة يقاتلون معهم، وثبت من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومرويات عدد من الصحابة البدريين أنَّ الله تعالى ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، قال تعالى:{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال:12).
ولاشك أنَّ هذا التأييد الإلهي بالملائكة عامل أساس في تثبيت المؤمنين وطمأنة قلوبهم في القتال والثبات على أرض المعركة قال الله تعالى: { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. (الأنفال:10).
يقول د. عبد الكريم زيدان : (فالإمداد بالملائكة هو بعض ثمرات إيمان تلك العصبة المجاهدة، ذلك الإمداد الذي تحقق به ما يستلزم الغلبة على العدو، ولكن بقيت الغلبة موقفة على ما قدَّمه أولئك المؤمنون في قتال ومباشرة لأعمال القتال، وتعرّضهم للقتل، وصمودهم وثباتهم في الحرب، واستدامة توكلهم على الله، واعتمادهم عليه، وثقتهم به، وهذه معان جعلها الله حسب سننه في الحياة أسباباً للغلبة والنصر، مع الأسباب الأخرى المادية، مثل العُدة والعدد والاستعداد للحرب وتعلم فنونه).
الموقف الخامس: غنائم وأموال والتربية الإلهية
كانت غزوة بدر أول تجربة للمسلمين في التضحية والقتال في سبيل الله، وهي أول تجربة كذلك لهم في رؤية الغنائم والأموال أمامهم في أعقاب المعركة، وهم على ما كانوا عليه من الفقر والحاجة، فروي أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم قال لهم : (من أخذ شيئاً فهو له)، واختلفت الصَّحابة فقال بعضهم: نحن حمينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكنا ردءاً لكم. وقال قوم: نحن قاتلنا وأخذنا.
ثمَّ جاءت الحكم الإلهية فعالجت مسألة الأنفال بوسائل تربوية دقيقة في وقتها المناسب؛ قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. (الأنفال:1).
مراجع للاستزادة :
-الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم – سعيد حوّى.
-المستفاد من قصص القرآن –عبد الكريم زيدان.
-السيرة النبوية دروس وعبر –علي الصلابي.