بين اليأس والأمل – بقلم : الإمام الشهيد حسن البنا

الرئيسية » حصاد الفكر » بين اليأس والأمل – بقلم : الإمام الشهيد حسن البنا
رسائل حسن البنا

((لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُون)).
لا أتصوَّر مؤمناً بالله وبالقرآن يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً، مهما أظلمت أمامه الخطوب، واشتدَّت عليه وطأة الحوادث، ووقعت في طريقه العقبات. إنَّ القرآن ليضع اليأس في مرتبة الكفر، ويقرن القنوط بالضلال، قال تعالى: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ). (الحجر: 56).

وإنَّ القرآن ليقرّره ناموساً كونياً لا يتبدَّل، ونظاماً ربّانيّاً لا يتغيَّر، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً، إنَّ الأيام دُوَلٌ بين الناس، وإنَّ القويَّ لن يستمر على قوّته أبدَ الدَّهر، والضَّعيفَ لن يدومَ عليه ضعفُه مدى الحياة، ولكنَّها أدوار وأطوار تعترض الأمم والشعوب كما تعترض الآحاد والأفراد. (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ). (آل عمران: 140).

وإنَّ حكمة الله في ذلك أن يبلوا المؤمنين ويختبر الصَّادقين ويميز الخبيثَ من الطيِّب فيجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم، ويؤجِر الصَّادقين الثابتين نصراً وتأييداً في الدنيا، ومثوبةً ومغفرةً في الآخرة. (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ). (محمد: 31).
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ). (آل عمران: 142)، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ). (البقرة: 214).

وأقرب ما يكون هذا النَّصر إذا اشتدَّ الضيق وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر.
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). (يوسف: 110)، ولم تختلف هذه القاعدة الرَّبانيّة في الأمم السَّابقة، فكم من أمة ضعيفة نهضت بعد قعود، وتحركت بعد خمود، وكم من أمَّةٍ بَطِرَت معيشتها وكفرت بأنعم الله فزالت من الوجود، وأذاقها الله لباسَ الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.

(وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً). (الإسراء: 4-6).

وقد لا يخطر ببال هؤلاء المؤمنين الصَّابرين أنَّهم سيصلون إلى الغاية بمثل هذا اليسر، أو تتحقّق لهم الآمال بهذه السهولة، ولكنَّ الله العليّ يُدني منهم ما بعد، ويهوّن عليهم ما صعب، ويوافيهم بالنَّصر من حيث لا يحتسبون

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ). (القصص: 4- 6).

وإنَّ القرآن ليمدّ هؤلاء الصَّابرين الآملين الذين لا يجد اليأس إلى قلوبهم سبيلاً بمعين من القوَّة لا تفيض إلاَّ من رحمة الله وقدرته، تتحطَّم أمامها قوى المخلوقين، وتعجز عن إضعافها والنيل منها محاولة العالمين، وما يعلم جنود ربك إلا هو.. (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). (آل عمران: 175).
(قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). (المائدة: 23).

وقد لا يخطر ببال هؤلاء المؤمنين الصَّابرين أنَّهم سيصلون إلى الغاية بمثل هذا اليسر، أو تتحقّق لهم الآمال بهذه السهولة، ولكنَّ الله العليّ يُدني منهم ما بعد، ويهوّن عليهم ما صعب، ويوافيهم بالنَّصر من حيث لا يحتسبون.
(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّار). (الحشر:2-3).

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً). (الأحزاب:25-26).

فيا أيها المؤمنون بهذا الكتاب الكريم:
أيليق بكم أن يقول قائل: ماذا نصنع ونحن ضعاف وخصومنا أقوياء؟ أو يجمل بأحد منكم أن يتخلّف وفي صدره هذا الأمل الواسع ومن ورائه هذا التأييد الشامل عن وصف الجهاد؟.. اللَّهمَّ لا.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

قراءة سياسية في عبادة الصيام

عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا …