"من علامات الصّدق أن تكون كلمتك واحدة في الرَّغبة والرَّهبة والطَّمع واليأس".. مقولة جامعة لمعنى من أسمى المعاني التي يجب أن تتأصل في المربّي والمتربّي معاً، وهو الصدق والبعد عن الكذب والتضليل، فالكذب ليس فقط هو أن يكذب شخص على شخص، ولكن هناك صور كثيرة من الكذب انتشرت في زمننا هذا مثل ما تمارسه بعض أجهزة الإعلام لتضليل الرَّأي العام لصالح رأي أو فكر معيّن، وهذا يترتب عليه أضرار كثيرة تحيق بالأفراد والمجتمعات، وتقدم تزييفاً للحقيقة قد ينتج عنه ردّ فعل في الاتجاه الخاطئ.
لذا اهتم الإسلام بتحريم الكذب تحريماً قاطعاً، فالكذب ريبة، كما جاء في حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة" رواه الترمذي، فنفس المؤمن المتعلقة بالله تطمئن إلى الصدق وتعرفه وتميزه وتنفر من الكذب وتنزعج منه، والريبة هي الظنون التي يروجها أصحاب الباطل ويصدقها ضعفاء الإيمان {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}، (النجم:23).
كما أنَّه أمارة من أمارات النفاق، فالمنافق يعتمد الكذب بشكل أساس في كلامه وفي إظهار خلاف ما يبطن، وفي التدليس والافتراء، فضلاً عن أنَّه علامة من علامات فساد النفس.
كيفية تتجنب الكذب؟
حرص الإسلام على اجتثاث بعض الأمراض التي قد تصيب الفرد المسلم ومن أشد هذه الأمراض الكذب لذلك كان لزاماً على المربِّي أن يسترشد بهدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في تجفيف منابع هذه الظاهرة، ومن ذلك:
1- غرس فضيلة الصّدق عند الأطفال حتى ينشؤوا عليها ويتعوَّدوا عليها في أقوالهم وأفعالهم، وهذا ما أشار به النبي صلّى الله عليه وسلّم على إحدى الأمهات وهي أم سيّدنا عبد الله بن عامر، ويروي لنا سيّدنا عبد الله بن عامر القصة، فيقول: دعتني أمي يوماً ورسول الله قاعد في بيتنا، فقالت: تعال أعطك، فقال لها صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال لها: "أمَّا إنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة"، رواه أبو داوود.
2- تعريف الكذب وكل ما يدخل في إطار الكذب حتّى لو كان صغيراً، فعن أسماء بنت يزيد قالت: يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا أشتهيه يعد ذلك كذبا؟ قال: "إنَّ الكذب يكتب كذبا حتى تكتب الكذيبة كذيبة"، رواه مسلم.
ومن الأشياء التي قد تستدرج المرء للكذب:
1- المزاح: يقع الكثير منّا في الكذب حينما يحب أن يمزح، فيقول كلاماً قد يخرج فيه عن الحقيقة حتَّى ينتزع الضحك من الناس انتزاعاً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب، ويل له، ويل له"، رواه الترمذي.
وقال: "أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا"، رواه البيهقي.
2- المدح: فقد يصل بعض الناس للمغالاة في المدح بأن يقول ما هو ليس فيمن يتوجه إليهم بالمدح، وفي هذا تملق ونفاق، فقد وجدنا بعض الصحفيين يتملقون الرّئيس وكبار المسؤولين ويخرجون في برامج أمام الناس يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ابتغاء مرضاة أسيادهم.
3- التجارة: بعض التجار تراوده نفسه أن يحسن من بضاعته ويروِّج لها بصفات ليست فيها وإخفاء مساوئ سلعته بهدف الحصول على أعلى سعر يمكن أن تباع به السلعة، ويراهن على جهل المشتري بالسلعة، والكذب في التجارة يسمَّى غشاً؛ لأنَّه خداع للمشتري، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرئ مسلم، يبيع سلعته، يعلم أن بها داء إلا أخبر به"، رواه البخاري.
وعن ابن أبي أوفى أنَّ رجلاً أقام سلعة في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ليوقع فيها رجل من المسلمين فنزلت {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، (آل عمران:77)، رواه البخاري.
4- الشهادة: وشهادة الزّور هي نوعٌ من الكذب، وهناك من يبيع نفسه من أجل عَرَض من الدنيا يبيع آخرته بدنيا غيره فيشهد بالباطل والمسلم يقول الحق ولو على أقرب المقربين إليه، ويدخل في ذلك أيضاً تزكية المرشحين للمناصب العامة في الدولة كالمجالس النيابية وغيرها، فقد قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خبيرا}، (النساء :135). فكم أفسد التزوير في حياة الناس بأن جاء بمن هم ليسوا أهل خبرة وبمن فسدت أخلاقهم على غير رضا من الناس وكانت النتيجة أن قام هؤلاء باستخدام سلطتهم لمصالحهم الشخصية والتربح من المال العام وانتشار الفساد في أروقة إدارة الدولة.
5- الاعتذار عن خطأ: فقد يندفع الإنسان عند الاعتذار عن شيء ويحاول التملص من عواقبه، وفي هذا يقول الرَّسول صلَّى الله عليه وسلم: "تحرّوا الصدق وإن رأيتم الهلكة فيه فإن فيه النجاة"، رواه ابن أبي الدنيا.
وقد مدح الله الصَّادقين ودعانا أن نكون منهم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}، (التوبة: 119). وقال في سيّدنا اسماعيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً}، (مريم :54).
وقد جمع الله سبحانه صفات الصَّادقين في آية من آياته، فقال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، (البقرة:177).