عند خروجه من مكَّة المكرّمة متخفياً من عيون زعماء قريش الذين بيّتوا له مكيدة قتله، كي يتفرّق دمه بين القبائل، بعد أن اضطهدوه والعصبة المؤمنة به، وحاصروهم وعذّبوهم واستضعفوهم ... عند خروجه مع أبي بكر الصديق، وقف على جنبات مكّة، قائلاً: ((والله، إنّك لخير أرض الله، وأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أنّي أخرجت منك ما خرجت)). بهذه الكلمات ودّع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحزن المفارق مكّة البلد الأمين، أحبَّ الأماكن إليه، وخرج إلى موطن آخر يؤسِّس فيه لدولة الإسلام، وينطلق هو وأصحابه فاتحين مشارق الأرض ومغاربها.
وبعد ثماني سنوات من البعد وألم الفراق، يعود إلى هذا البلد الأمين فاتحاً منتصراً بعد أن خرجه خائفاً مستضعفاً، ولقصة هذا الفتح المبين دلالات في مقدمات سبقته، كانت سبيلاً وإرهاصاً له، فقد أخرج البخاري عن البراء رضي الله عنه قال : (تعدّون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية). فمع هذه المقدّمات..
هو الفتح الأعظم الذي أعزَّ الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين
عُمرة الحديبية ..
ظلت مكّة المكرّمة في قلب النبيّ عليه الصّلاة والسّلام، ففي السنة السَّادسة للهجرة، أري رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم في المنام، وهو بالمدينة، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهم وقصَّر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنّهم داخلو مكة عامهم ذلك، وأخبر أصحابه أنَّه معتمر فتجهزوا للسَّفر، فساق معه الهدي، وأحرم بعمرة، ليعلم النَّاس أنه لم يخرج لحرب، فلَّما بلغ خروجه قريشاً، خرج جمعهم صَادِّينَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المسجد الحرام ودخول مكة.
ولمَّا وصل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحديبية بركت ناقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الناس: خَلأَتْ، خَلأَتْ، فقال النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: ((ما خلأت وما هو لها بِخُلُقٍ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكَّة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة رحم إلاَّ أعطيتهم إيَّاها)). فكان صلح الحديبية الذي يقضي في أحد بنوده أن ينصرف عليه السلام عامه ذلك، فإذا كان من قابل أتى معتمراً، ودخل هو وأصحابه مكَّة بلا سلاح حاشا السيوف في قربها، فيقيم بها ثلاثاً ويخرج ..
عُمرة القضاء ..
ولمَّا هلَّ هلال ذي القعدة في السنة السَّابعة للهجرة، أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم، وألاّ يتخلّف منهم أحدٌ شهد الحديبية، فخرجوا إلاَّ من استشهد، وخرج معه آخرون معتمرين، فكانت عدّتهم ألفين سوي النساء والصبيان.
فتح مكة .. النَّصر المبين
قال ابن قيم الجوزية : (هو الفتح الأعظم الذي أعزَّ الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عِزِّه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجاً).
بعد ثماني سنوات من البعد وألم الفراق، يعود إلى هذا البلد الأمين فاتحاً منتصراً بعد أن خرجه خائفاً مستضعفاً
فكان سبب هذا الفتح مساعدة قريش في اعتداء بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم، على خلاف ما نصّت عليه بنود صلح الحديبية، وكان ذلك غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق. فما كان من رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم إلاَّ أن يقوم بنصرة حلفائه، فخرج من المدينة متجهاً إلى مكَّة، في عشرة آلاف من الصَّحابة رضي الله عنهم، فدخل مكّة وهو يضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتَّى أن شعر لحيته ليكاد يمسّ واسطة الرّحل. ودخل رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام المسجد، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثمَّ طاف بالبيت، وفي يده قوس، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: { جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } (الإسراء : 81)، { قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } (سبأ : 49). والأصنام تتساقط على وجوهها.
من الدلالات والدروس ..
1. انطوت عمرة القضاء على معنى تمهيدي للفتح الكبير الذي جاء بعده، فقد كان لمرأى ذلك العدد الوفير من الأنصار والمهاجرين وهو محدقون برسول الله صلَّى الله عليه وسلّم في طوافهم وسعيهم وسائر مناسكهم، في حماس ونشاط غير مأمولين منهم فيما كان يتصورّه المشركون فيهم من الضعف والخمول، فكان لهذا المشهد أثراً بالغاً في نفوس المشركين مهّد لفتح مكة.
بعد فتح مكة، تحققت أمنية الرسول صلى الله عليه وسلم بدخول قريش في الإسلام، وبرزت قوة كبرى في الجزيرة العربية، وتحقق وعد الله بالتمكين للمؤمنين الصادقين بعد ما ضحوا بالغالي والنفيس
2. اهتم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بتطوير القوَّة العسكرية، وإرسال السرايا في فترة الصلح؛ وبذلك أصبحت متفوّقة على قوَّة مشركي قريش من حيث العددُ والعدّة والرّوحُ المعنوية.
3. يدلنا سبب فتح مكة على أنَّ أهل العهد والهدنة مع المسلمين إذا حاربوا من هم في ذمَّة المسلمين صاروا حرباً لهم بذلك، ولم يبق بينهم وبين المسلمين من عهد، وهذا ما اتفق عليه علماء المسلمين.
4. هناك مواطن يفقد فيها الرّحماء رحمتهم، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفارقه رحمته، يُؤذى ويُضرب ويُضطهد فيقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)). ويوم فتح مكة وقد فعلت به ما فعلت، كان موقفه غير المتوقع كما قصّ عمر قال : (لما كان يوم الفتح ورسول الله صلَّى الله عليه وسلّم بمكة أرسل إلى صفوان بن أمية وإلى أبي سفيان بن حرب وإلى الحارث بن هشام قال عمر:فقلت: لقد أمكن الله منهم لأعرفنهم بما صنعوا حتَّى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الرَّاحمين} .
5. كان من التدبير الحكيم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أمر به أصحابه من أن يتفرّقوا في مداخل مكّة، وذلك لتفويت فرصة القتال، على أهل مكة إن أرادوا ذلك؛ إذ يضطرون إلى تشتيت جماعاتهم وتبديد قواهم في جهات مكّة وأطرافها، فتضعف لديهم أسباب المقاومة ومغرياتها.
6. كان من آثار هذا الفتح المبين : أصبح المسلمون قوى عظمى في جزيرة العرب. وبعد فتح مكة، تحققت أمنية الرسول صلى الله عليه وسلم بدخول قريش في الإسلام، وبرزت قوة كبرى في الجزيرة العربية، وتحقق وعد الله بالتمكين للمؤمنين الصادقين بعد ما ضحوا بالغالي والنفيس، وحققوا شروط التمكين وأخذوا بأسبابه، وقطعوا مراحله وتعاملوا مع سننه كسنة الابتلاء، والتدافع، والتدرج، وتغير النفوس، والأخذ بالأسباب.
7. اختصّ الحرم المكي بجملة خصائص هي : حرمة القتال فيه، وتحريم صيده، وتحريم قطع شيء من نباته، ووجوب دخوله مُحْرِماً، وحرمة تمكين غير المسلمين من الإقامة فيه.