من الحكم الإلهية في بعض تشريعاته عدمُ تحديد أوقات بعض العبادات والطَّاعات، فمن ذلك: ساعة إجابة الدُّعاء يوم الجمعة، والصّلاة الوسطى، وليلة القدر وغيرها من أنواع العبادات، وتتجلّى هذه الحكمة الرّبانية في تحفيز المؤمنين على استغلال الأوقات والمحافظة على الطاعات في وقت وحين، والمنافسة في تحصيل الحسنات والأجر والثواب، ممّا يجعلهم في صلة مع الله سبحانه على الدّوام.
ولعلماء الأمَّة اجتهادات بالاعتماد على بعض نصوص الأحاديث وأقوال سلف الأمَّة، في تقريب أو تحديد مراد الشارع منها، لكن يبقى ذلك كلّه اجتهاداتٍ مأجورةً مباركةً، ويبقى الأمر عاماً تستفيد منه الأمَّة الإسلامية على اختلاف أجيالها وأزمانها، ومن العبادات والأوقات الفاضلة التي جاءت مبهمة وأخذت نصيباً كبيراً في اختلاف العلماء والفقهاء في تحديد وقتها وزمانها؛ ليلة القدر المباركة، التي وصفها المولى تبارك وتعالى بقوله : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ *لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
نجد أنَّ مصنّفي كتب السنة الشريفة أبدعوا في صياغة عناوين أبواب كتبهم تدلّ على فهم عميق ودلالة قويّة على المعاني الشرعية والتربوية لهذه الأيام المباركة والفضيلة
لكنَّ نصوص الأحاديث النبوية الصَّحيحة تجمع أنّها في الوتر من العشر الأخير من شهر رمضان المبارك، ولهذا العشر الأخير اهتمام خاصٌ لدى الرّسول صلَّى الله عليه وسلّم وسلفنا الصّالح من الصَّحابة والتَّابعين، لذلك نجد أنَّ مصنّفي كتب السنة الشريفة أبدعوا في صياغة عناوين أبواب كتبهم تدلّ على فهم عميق ودلالة قويّة على المعاني الشرعية والتربوية لهذه الأيام المباركة والفضيلة.
فالإمام مسلم في صحيحه بوّب باباً فقال: (باب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَالْحَثِّ عَلَى طَلَبِهَا وَبَيَانِ مَحِلِّهَا وَأَرْجَى أَوْقَاتِ طَلَبِهَا). والإمام النسائي في سننه الصغرى بوّب هذه الأيام الفاضلة بقوله : (باب الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان وتحرِّي ليلة القدر من لياليها)، وفي الكبرى قال : (باب الترغيب في طلبها في الشفع من العشر الأواخر فإنَّه إذا عدّ الشهر من آخره كانت أشفاعه أوتاراً). والإمام البيهقي في سننه قال: (باب التَّرْغِيبِ فِي طَلَبِهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ). والإمام ابن حبّان في صحيحه بوَّب بقوله : (ذكر البيان بأنَّ الأمر بطلب ليلة القدر في السبع الأواخر إنَّما هو لمن عجز عن طلبها في العشر الغوابر). وفي صحيح الإمام ابن خزيمة بابُ : (ذكر الدَّليل على أنَّ الأمر بطلب ليلة القدر في الوتر مما يبقى من العشر الأواخر لا في الوتر مما يمضي منها).
أمَّا أحاديث هذه الأبواب، فقد شملت جملة من الأحاديث النبوية ذات التوجيهات التربوية والدلائل الإيمانية نذكرها ثمَّ نستخلص بعض المعاني التي أبرزت ضرورة المواظبة على الطاعات والحفاظ على العبادات في هذه الأيام المباركات ..
ففي صحيح البخاري :
عن عبادة بن الصَّامت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: (( إنِّي خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنَّه تلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، التمسوها في السَّبع والتسع والخمس)).
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما : أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى )).
وعن سالم بن عبد الله عن ابن عمر رضي الله عنه : أنَّ أناساً أروا ليلة القدر في السَّبع الأواخر، وأنَّ أناساً أروا أنَّها في العشر الأواخر، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((التمسوها في السبع الأواخر)).
وفي صحيح مسلم :
عن ابن عمر رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (( التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السَّبع البواقي)).
وفي سنن الترمذي:
عن عائشة رضي الله عنها قالت : ((كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلّم يجاور في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)).
وفي سنن أبي داود :
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، والتمسوها في التاسعة والسَّابعة والخامسة)).
إنَّ إبهام ليلة القدر أدعى إلى قيام العشر كلهِ - أو أوتاره - في طلبها، فيكونُ سبباً لشدَّة الاجتهاد وكثرته
وفي مسند الإمام أحمد :
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت : ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعتَكِفُ فِي الْعَشرِ الأَوَاخِرِ ويقول: التمِسُوهَا فِي العَشرِ الْأَوَاخِرِ يَعنِي لَيلَةَ القَدرِ)).
وفي صحيح ابن حبَّان :
عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليلة القدر التمسوها في العشر الأواخر، وإن ضعف أحدكم أو عجز، فلا يغلبن عن السبع البواقي )).
المعاني والدّلالات :
1. قوله صلَّى الله عليه وسلم : ((التمسوها))، قال الإمام القرطبي: (هو أمر على جهة الإرشاد إلى وقتها، وترغيب في اغتنامها، فإنَّها ليلة عظيمة، تغفر فيها الذنوب، ويُطلع الله تعالى فيها من شاء من ملائكته على ما شاء من مقادير خليقته، على ما سبق به علمه، ولذلك عظَّمها سبحانه بقوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} ، إلى آخر السّورة ، وبقوله : { حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }. (الدخان: 1- 6).
2.قال الحافظ ابن حجر في الفتح : (قال العلماء : الحكمة في إخفاء ليلة القدر ، ليحصل الاجتهاد في التماسها بخلاف ما لو عينت لاقتصر عليها). وقال الإمام ابن رجب : (إنَّ إبهام ليلة القدر أدعى إلى قيام العشر كلهِ - أو أوتاره - في طلبها، فيكونُ سبباً لشدَّة الاجتهاد وكثرته).
إنَّ المخاصمة مذمومة وسبب في الحرمان، وكذلك كل بلاء فسببه المعاصي
3. اختلف العلماء كثيراً في تعيين ليلة القدر، وهل هي متنقلة بين الأعوام أم لا ؟، ويلخِّص هذا الخلاف الإمام القرطبي في كتابه (المفهم) بقوله: (والحاصل من مجموع الأحاديث ، وممَّا استقر عليه أمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم أنَّها في العشر الأواخر من رمضان، وأنها منتقلة فيه، وبهذا يجتمع شتات الأحاديث المختلفة الواردة في تعيينها. وهو قول مالك ، والشافعي ، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وغيرهم على ما حكاه أبو الفضل عِياض. فاعْتَمِدْ عليه، وتَمَسَّكْ به). وقال الإمام المباركفوري في تحفة الأحوذي : (فالأرجح والأقوى أن كون ليلة القدر منحصر في رمضان ثمَّ في العشر الأخير منه، ثمَّ في أوتاره لا في ليلة منه بعينها).
4. إنَّ المخاصمة مذمومة وسبب في الحرمان، وكذلك كل بلاء فسببه المعاصي. قال العلماء : (فدلَّ الحديث على أنَّ الذنوب قد تكون سبباً لخفاء بعض معرفة ما يحتاج إليه في الدين، فكلما أحدث الناس ذنوباً أوجب ذلك خفاء بعض أمور دينهم عليهم).