إذا أردت أن تبحثي عن سرّ العمالقة والعباقرة والنوابغ والقادة، فابحثي عن أمهات هؤلاء، والأسر التي تَربَّوا وترعرعوا فيها، والبيئة التي نشؤوا فيها، والأمهات اللاتي قمن بتربيتهم وتعليمهم.
إنَّ دور المرأة في الحياة لا يقلُّ أبداً عن دور الرَّجل، فالمرأة مشاركة للرجل في حماية الأسرة وتحمّل المسؤولية في بناء حياة الأبناء، ورفع ذكرهم وبقاء أثرهم ، وإنَّ من يقلب صفحات التاريخ يجد صوراً لعظمة الأمهات ، تستطيع المرأة المسلمة في عصرنا الحاضر أن تفخر بها وتبني عليها أمجاداً، ومن تلك النساء صحابية جليلة أنشأت للمسلمين أول فارس سلَّ سيفاً في سبيل الله ، وهذا ليس عجيباً على امرأة كانت أوَّل من قتلت مشركاً في الإسلام ؟ امرأة كان يحسب لها الرِّجال ألف حساب.
إنَّها الهاشمية القرشية التي اكتنفت المجد من كلِّ جانب؛ أبوها زعيم قريش و سيّدها المطاع عبد المطلب ابن هاشم جدّ النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم، وأمّها هالة بنت وهب أخت آمنة بنت وهب والدة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلم، وزوجها الأوَّل؛ الحارث بن حرب أخو أبي سفيان ابن حرب زعيم بني أمية ، وقد توفي عنها ، وزوجها الثاني، العوام بن خويلد أخو خديجة بنت خويلد سيدة نساء العرب في الجاهلية ، وأولى أمهات المؤمنين في الإسلام ، وابنها الزبير بن العوام حواري رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأخوها سيد الشهداء حمزة .
لا شكَّ عرفتن من هي ؟!
إنَّها الصحابية البطلة عمَّة رسول الله صفية بنت عبد المطلب.
لمَّا بعث الله النبي بدين الحق والهداية ليكون نذيراً للعالمين أمره بأقربائه أولا، فجمع الرسول بني عبدالمطلب وخاطبهم قائلاً" :يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب إني لا أملك لكم من الله شيئاً".
ثم دعاهم إلى الإيمان بالله، و حضهم على التصديق برسالته ...فكانت صفية بنت عبدالمطلب من المؤمنين المصدقين فجمعت بين أطراف المجد، عز الإسلام ، ورفعة النسب.
انضمَّت للمسلمين هي وابنها الزبير بن العوام ، و قاست ما عاناه المسلمون الأوائل من التعذيب والتنكيل من مشركي قريش، فهاجرت إلى المدينة بدينها إلى الله ورسوله .صحابية جليلة أنشأت للمسلمين أول فارس سلَّ سيفاً في سبيل الله ، وهذا ليس عجيباً على امرأة كانت أوَّل من قتلت مشركاً في الإسلام ؟ امرأة كان يحسب لها الرِّجال ألف حساب.
ربَّت ابنها على الخشونة والبأس والفروسية والحرب، وجعلت لعِبه في بَرْيِ السهام واصلاح القسي، ودأَبتْ على أن تقذفه في كلِّ مخوفةٍ، وتقحمه في كل خطر ، فإذا رأته أحجم أو ترّدد ضربته ضرباً مبرِّحاً، حتى إنها عوتِبتْ في ذلك مِن قِبَل أحد أعمامه،فقالت له شعراً:
من قال: قد أبغضته فقد كذب
و إنَّما أضربه لكي يلب و يهزم الجيش ويأتي بالسلب
وما أجل هذا العمل وأعظمه أن نربِّي أبناءنا على مكارم الله طاعة لله، وأن نعلمهم كتاب الأخلاق، وأن نحملهم على الطاعات..
لَيْـسَ يَرْقَـى الأَبْنَـاءُ فِـي أُمَّـةٍ مَـا لَـمْ تَكُـنْ قَـدْ تَـرَقَّـتْ الأُمَّـهَاتُ
وما زال التاريخ يذكر بالإعجاب والثناء مواقف السيدة صفية يومي أحد والخندق..
في يوم أحد كانت مع جند المسلمين في ثلة من النساء تنقل الماء، و تروي العطاش، و تبري السهام...
لما رأت المسلمين ينكشفون عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلاَّ قليلاً منهم...
هبَّت كاللبؤة التي هوجم أشبالها وانتزعت رمحا من أحد المنهزمين ، ومضت تشق به الصفوف، و تزأر في المسلمين قائلة :ويحكم، انهزمتم عن رسول الله ؟!!
فلمَّا رآها النبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام مقبلة خشي عليها أن ترى أخاها حمزة وهو صريع، وقد مثل به المشركون أبشع تمثيل فأشار إلى ابنها الزبير فأقبل عليها الزبير وقال :
يا أُمَّهْ إليكِ ... إليكِ يا أُمَّهْ.
فقالت : تنح لا أم لك ،إنه قد بلغني أنه مُثِّلَ بأخي ، وذلك في الله ...لقد رضيت بقضاء الله ،
والله لأصبرن ، ولأحتسبن إن شاء الله.
وفي غزوة الخندق...كان الرَّسول صلى الله عليه وسلم من عادته إذا عزم على غزوة من الغزوات أن يضع النساء والذَّراري في الحصون خشية أن يغدر بالمدينة غادرٌ في غيبة حُماتها .
فوضعهن يوم الخندق في حصنٍ لحسان بن ثابت، وكان من أمنع حصون المدينة مناعةً و أبعدها منالاً .
وبينما كان المسلمون يرابطون على حواف الخندق في مواجهة قريش و أحلافها ، وقد شُغِلوا عن النساء والذَّراري بمنازلة العدو .
أبصرت صفية بنت عبد المطلب شبحاً يتحرَّك في عتمة الفجر، فإذا هو يهودي من المتربصين، جاء ليعلم أفي الحصن رجال يدافعون عمَّن فيه أم لا ؟
فما كان منها إلاَّ حملت عموداً في يديها الشريفة وذهبت تراقبه حتَّى إذا دنى منها ضربته على رأسه المرة تلو المرَّة حتَّى أجهزت عليه وجزَّت رأسه بالسكين ورمته من أعلى الحصن، فتدحرج حتى أستقر بين أيدي اليهود، فقالوا:
قد علمنا أنَّ محمَّداً لم يكن ليترك النساء والأطفال من غير حماة ... ثمَّ عادوا أدراجهم ...
الله أكبر ...الله أكبر ... يا لشجاعتك وقوتك يا أماه، نحن بحاجة إلى رجال اليوم يفعلون فعلتك هذه، حريٌّ على التاريخ أن يسجِّل اسمك بأحرف من ذهب.
توفيت رضي الله عنها في خلافة عمر سنة عشرين، ولها من العمر ثلاث وسبعون سنة، ودفنت في البقيع.
-للاستزادة:
- سير أعلام النبلاء للذهبي- الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر – السيرة النبوية لابن كثير