كلّ عبادة من العبادات التي أمرنا الله بها لها شقان؛ أحدها يتعلق بظاهر العبادة، أي الطريقة التي تؤدَّى بها، وما بها من أركان وفرائض ومنهيات، فالصَّلاة مثلاً، ظاهرها أن تقف متوضئا مستقبلاً القبلة، وتكبّر تكبيرة الإحرام، ثمَّ تبدأ بقراءة الفاتحة، ثمَّ تقرأ ما تيسر لك من القرآن، ثمَّ تركع ثمَّ ترفع من الركوع ثمَّ تسجد وهكذا.. هذا هو الجانب الظاهري للصَّلاة، فكل من أدَّى هذه الأركان القيام والركوع والسجود وغيرها من أركان الصَّلاة فقد أدَّى الصَّلاة، لكن هذه الحركات ليست هي ما يطلبه الله منا فقط، وإنَّما أراد من وراء ذلك تربية المؤمن على الخضوع والانقياد لله، وإطاعة أمره، فمن سجد لله ووضع جبهته على الأرض يجب أن يعلم أنَّ هذا إذلال للنفس وخضوع تام لله.
فتجد بعض الناس لا يصبر على الطاعة، بالكاد يصلي الفرائض ولا طاقة له على الإتيان بقيام أو قراءة للقرآن .
تجد آخر لا يصبر على الناس من حوله، سريع الغضب وإذا خاطبته وقلت له هدئ من نفسك يقول لك: أنا صائم، ولا أتحمَّل أيَّ أذى من أحد، وكأنَّه فهم الصيام فهماً خاطئاً، فهمه على أنَّه امتناع عن الطعام والشراب والجماع، ولم يفهم أنَّه صبر على أذى الناس {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}، (آل عمران:134) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلاً قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أوصني، قال: لا تغضب، فردد مرارا، قال: لا تغضب)، رواه البخاري والمقصود بقوله لا تغضب: أي لا تنفذ غضبك.
آخر لا يستطيع أن يمسك نفسه عن المعاصي، يخرج إلى الشارع وينظر إلى النساء وإذا عاد إلى المنزل جلس أمام التلفاز وشاهد الأفلام والمسلسلات، وما بها من نساء فقدن معنى الحياء والحشمة، ورجال لم يعلموا عن دينهم إلا اسمه، ولم يعلموا عن القرآن إلا رسمه، ويظنون أن ما يقدمونه تنويراً وتحضراً، وما أرادوا بذلك إلا إغواء الناس، وإلهائهم عن دينهم، وعن قضاياهم الحقيقية، وهؤلاء الناس إنما جعلهم الله فتنة لنا {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً}، (الفرقان:20).
آخر لا يستطيع أن يتخلى عن أكل أموال الناس بالباطل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}، (النساء:29) فتراه يقبل الرشوة، ويقبل الربا، ويقبل أن يغش الناس ويقصر في أداء عمله، ويعطل مصالح الناس، ومع ذلك يصوم ويظن أنه قد أدى فريضة الصيام، ولا يعلم أنه هدم المعنى الجليل الذي يكتسبه المؤمن من الصيام، أن تصبر وتمتنع عن ما حرم الله.
نصائح ابن القيّم في الصَّبر عن المعصية:
1- علم العبد بقبح المعصية ورذالتها ودناءتها، وأنَّ الله حرّمها ونهى عنها صيانة وحماية للعبد عن الرذائل، كما يحمى الوالد الشفيق ولده عن ما يضرّه.
2- الحياء من الله.. فإنَّ العبد متى علم بنظر الله إليه ومقامه عليه وأنه بمرأى من الله و مسمع كان حيياً يستحي أن يتعرَّض لمساخط ربّه.. والحياء أن تنفتح فى قلبك عين ترى بها أنك قائم بين يدى الله.
3- مراعاة نعم الله عليك وإحسانه إليك: فإذا كنت في نعمة فارعها، فإنَّ المعاصي تزيل النعم.. من أنعم الله عليه بنعمة فلم يشكرها عذبه الله بذات النعمة.
4- الخوف من الله و خشية عقابه.
5- حب الله.. فإنَّ المحب لمن يحب مطيع.. إنما تصدر المعصية من ضعف المحبة.
6- شرف النفس وزكاؤها وفضلها وحميتها.. فكل هذا يجعلها تترفع عن المعاصي.
7- قوَّة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها والضرر الناشئ منها من سواد الوجه وظلمة القلب وضيقه وغمه.. فإن الذنوب تميت القلوب.
8- قصر الأمل ويعلم الإنسان أنه لن يعمر في الدنيا ويعلم أنه كالضيف فيها وسينتقل منها بسرعة فلا داعي أن يثقل حمله من الذنوب فهي تضره ولا تنفعه.
9- مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه المفاضلات؛ ومن أعظم الأشياء ضررا على العبد.. بطالته وفراغه.. فإنَّ النفس لا تقعد فارغة.. إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضرّه.
10- السبب الأخير هو السبب الجامع لهذه الأسباب كلها.. وهو ثبات شجرة الإيمان فى القلب.
فصبر العبد عن المعاصي إنَّما هو بحسب قوة إيمانه فكلَّما كان إيمانه أقوى كان صبره أقوى.. وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر.