دعوةُ شعيب .. رباط العقيدة والمعاملة والسلوك

الرئيسية » بصائر التوحيد » دعوةُ شعيب .. رباط العقيدة والمعاملة والسلوك
alt

في التشريع  الرَّباني الحكيم لا تنفصم تعاليم العقيدة الصَّحيحة مع تشريعات المعاملات والعلاقات بين النَّاس سواء كانت مادية أو معنوية، فالتوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى يرتبط ارتباطاً وثيقاً بصحة المعاملة والتعامل بين بني البشر، ليشكّلا فيما بينهما – أي: العقيدة والمعاملة-  صورة ناصعة تميّز التشريع الإلهي عن باقي القوانين الوضعية، ذلك أنّ الأوَّل من لدن خبير عليم حكيم، وأنَّ الثانية من اختراع عقول البشر الضيّقة.

وفي دعوة الأنبياء عليهم السَّلام تبرز هذه القضية بوضوح، فكلّهم جاؤوا بدعوة التوحيد الخالص التي حملت معها قضايا تنظم حياة المدعوين بما ينسجم مع  روح تلك العقيدة، وإن كانت رسالات الأنبياء تختلف فيما بينها في بعض الجزئيات التشريعية، وذلك لطبيعة النّاس الموجهّة إليهم تلك الرّسالة، لكنها تتفق جميعها في أنَّ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}. (النساء:123).

والدَّارس لرسالات الأنبياء يجد أنَّ أغلبها جاءت لتعالج بالإضافة إلى قضية العقيدة، مشكلة أخلاقية أو اقتصادية أو فكرية أو اجتماعية، تخالف أسس العقيدة السليمة التي أمر الله سبحانه رسله بتبليغها للنَّاس، فمن بين هؤلاء الرّسل؛ نبي الله شعيب عليه السّلام الذي بعثه الله عزّ وجل إلى أهل مدين، وهم أصحاب الأيكة أنفسهم، والأيكة الشجر الكثيف الملتف، ولعلَّ أهل مدين كانوا يجاورون هذه الغيضة الوريفة من الأشجار، فارتبط اسمهم باسمها، أمَّا موقعها الجغرافي فهي تقع الطريق بين الشام والحجاز، وقد أشار القرآن الكريم في سورة الأعراف أنّهم كانوا يقطعون الطريق على النَّاس ويفسدون في الأرض، ويفتنون النَّاس عن دينهم الذي ارتضوه، فقال تعالى:{ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}. (85-86).
في التشريع  الرَّباني الحكيم لا تنفصم تعاليم العقيدة الصَّحيحة مع تشريعات المعاملات والعلاقات بين النَّاس سواء كانت مادية أو معنوية
بعث الله في أهل مدين شعيباً خطيب الأنبياء رسولاً، فدعاهم إلى عبادة الله  وتوحيده، ونهاهم عمَّا كانوا يرتكبون من المنكرات والآثام .. فمع الدّعوة إلى قضية التوحيد التي جاء بها الرّسل من قبله جميعهم، هناك قضية أخرى، قضية ذات صلة وثيقة بالعقيدة والتوحيد الخالص والدينونة لله وحده واتباع شرعه وأمره، هذه القضية هي قضية الأمانة والعدالة في التعامل بين  النّاس، فآمن به وصدّقه بعضهم، وكفر الأكثرون، الذين لم يدركوا العلاقة بين المعاملات المالية والصلاة المعبّرة عن التوحيد والاحتكام لله سبحانه وتعالى.

إنَّ الدينونة لله وحده هي  قاعدة العقيدة الأولى، القاعدة التي لا تقوم بغيرها عقيدة ولا عبادة ولا معاملة .. {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. ( الأعراف :85).
يبدأ شعيب عليه السَّلام في دعوتهم من هذه العقيدة التي يعلم أنَّه تنبثق منها كل مناهج الحياة وكل أوضاعها؛ كما أنَّ منها تنبثق قواعد السلوك والخلق والتعامل، ولا يستقيم كلها إلاَّ إذا استقامت هذه القاعدة.

فبعد العقيدة يبدأ شعيب عليه السّلام في معالجة مشكلة قومه الذين كانوا ينقصون المكيال والميزان، ويبخسون النَّاس أشياءهم، فينقصون قيمة أشيائهم في المعاملات، وهذه رذيلة تمس نظافة القلب واليد، كما تمس المروءة والشرف،{ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. (الأعراف:85). {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . (هود:84-85).

{أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} .. وإيفاء الكيل والميزان أقوى من عدم نقصها، لأنَّه أقرب إلى جانب الزيادة.

{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} .. وهذا أعمّ من المكيلات والموزونات، فهو يشمل حسن تقويم أشياء النّاس من كل نوع، تقوميها كيلاً أو وزناً أو سعراً أو تقديراً، وتقويمها مادياً أو معنوياً، وكلمة (شيء) تدلّ في ذلك على الأعمال والصفات.
وبخس النّاس أشياءهم – فوق أنه ظلم – يشيع في نفوس النَّاس مشاعر سيّئة من الألم والحقد، أو اليأس من العدل والخير وحسن التقدير، وكلها مشاعر تفسد جوّ التعامل والروابط الاجتماعية والنفوس والضمائر، ولا تبقي على شيء صالح في الحياة.

{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} .. والعثو هو الإفساد، أمرهم ألا يتعمّدوا الإفساد، قاصدين تحقيقه.
إنَّ العلاقة الوطيدة والارتباط الوثيق بين عقيدة التوحيد  وبين الأمانة والنظافة وعدالة المعاملة وشرف الأخذ والعطاء، تشكّل ضمانة لحياة إنسانية أفضل
{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} .. إنّها دعوة لا تقل خطورة عن سابقاتها، فإذا كانت دعواته السابقة قائمة على الأمور المادية، فإنَّ هذه تتصل بجانب آخر من جوانب الحياة، وهو الجانب الفكري والرّوحي، فلقد كانوا لا يدعون أي ثغرة، أو أي طريق إلاَّ ويقعدون به لإغواء النَّاس، يوعدونهم، ويخوّفونهم، ويصدّونهم عن الحق، وهم يشكّكون فيه.

ثمَّ يدعوهم الأصل الثابت الذي دعاهم إليه أوَّل دعوته ورسالته .. {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .. فما عند الله خير وأبقى وأفضل، ذلك أنَّ اتباع نصيحته في المعاملات فرعٌ من ذلك الإيمان الذي دعاهم إليه.
كانت دعوة شعيب عليه السّلام  قائمة على نهي قومه عن ارتكاب خمس خصال: الشرك بالله، والتطفيف، وبخس الحق، والإفساد في الأرض، والإرهاب الفكري والرّوحي.

إنَّ العلاقة الوطيدة والارتباط الوثيق بين عقيدة التوحيد  وبين الأمانة والنظافة وعدالة المعاملة وشرف الأخذ والعطاء، تشكّل ضمانة لحياة إنسانية أفضل، وضمان للعدل والسّلام في الأرض بين النّاس، وهي الضمانة الوحيدة التي تستند إلى الخوف من الله وطلب رضاه، تستند إلى أصل ثابت لا يتعلّق بعوامل متقلّبة أو متغيّرة ..  فلن تستقيم عقيدة التوحيد، بترك شريعة الله المتعلّقة بالسلوك والمعاملة ..

تلك هي نظرة الإسلام الشاملة التي جاءت على لسان خاتم الأنبياء والرّسل صلَّى الله عليه وسلّم، وحمل القرآن الكريم سورة باسم (المطففين) ارتبطت فيها عقيدة التوحيد بالمعاملة والسلوك جاء فيها :{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

alt

نِعْمَ العبدُ .. إنَّه أوَّاب

قال الرَّاغب في مفردات ألفاظ القرآن : (الأوبُ ضربٌ من الرُّجوع، وذلك أنَّ الأوب لا …