تشهد الهيمنة والسَّيطرة الإسرائيليَّة في عالمنا المعاصر العديد مِن العلامات التي تُشير إلى بَدء تراجعها، وخصوصًا على مستوى التَّأثير على الرَّأي العام الشَّعبيِّ في العديد من البلدان الغربيَّة، وكانت الحرب على قطاع غزَّة في شتاء العام 2008/2009م، هي مفتاح هذه التَّغييرات؛ حيث ارتفعت وتيرة الدعوات لمقاطعة منتجات المستوطنات والجامعات والشَّركات الإسرائيليَّة في أوروبا، وصدرَتْ أحكامًا قضائيَّةً من أكثر من محكمةٍ أوروبيَّةٍ، حتى في بريطانيا وإسبانيا، باعتبارها معاقلَ تقليديَّةٍ للوبي اليهوديِّ في أوروبا والغرب.
ولعلَّ في التطورات الأخيرة على المستويين الداخلي والخارجي في إسرائيل، ما يشير إلى أنَّ الكيان الصهيوني بات أكثر هشاشة من أي وقت مضى، فما بين عودة صواريخ المقاومة لتدك المدن والبلدات الإسرائيلية، وبين الإذلال التركي الأردوغاني والمصري الثوري عقب عملية أم الرشراش والجريمة الإسرائيلية بحق الجنود المصريين، الكثير من العلامات التي تشير إلى تواضع المركز الإسرائيلي في المنطقة.
على المستوى الداخلي، فإنَّ هناك الكثيرَ من الدلالات التي تعكسها الاحتجاجات الاجتماعية الحالية بسبب ارتفاع أسعار الوقود وأزمة السكن والفجوة المعيشية بسبب سوء السياسات الحكومية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما كان أولاً أمرًا مستغربًا في ظل مستويات الدخل الفردي السنوية العالية في إسرائيل، والتي تعدُّ من أعلى المعدلات في العالم، وثانيًا ما فتح مجالاً واسعًا للحديث عن قضايا مثل العدالة الاجتماعية والسياسية، في بلد من المفترض أنَّه الأكثر ثراءً وتقدّمًا في الناحيتين السياسية والاقتصادية في إقليمه.
ومن خلال متابعة ما تكتبه أقلام كبار الكتاب الإسرائيليين، ومن بينهم كتاب من وزن جدعون ليفي؛ فإننا ندرك أنَّ إسرائيل قد استفاقت على كابوس مخيف؛ حيث المشكلة هذه المرة تشير إلى أنَّ الحلم الإسرائيلي ببناء مجتمع الرفاه الاقتصادي والاجتماعي قد سقط سقوطًا ذريعًا تحت أقدام أكثر من 150 ألف متظاهر، وتمَّ لفه في أكفان خيام المعتصمين في شوارع تل أبيب ونهاريا!!
الحلم الإسرائيلي ببناء مجتمع الرفاه الاقتصادي والاجتماعي قد سقط سقوطًا ذريعًا
على مستوىً آخر، يبدو وكأنَّ الكيان الصُّهيونيَّ في فلسطين قد بدأت تزحف عليه علامات الشيخوخة المُبكِّرة؛ حيث تراجعت معدلات الهجرة اليهودية السَّنويَّة إليه، ووصلت معدلات مواليد السُّكَّان العرب الأصليِّين إلى مستوياتٍ تشير إلى أنَّه لن تمضي بضعة عقودٍ إلا وتعود فلسطين ذات غالبيَّةٍ عربيَّةٍ مسلمةٍ كما كانت عبر تاريخها، وهو ما يُعْرَفُ لدى صُنَّاع القرار الإسرائيليِّين ودوائرهم الخاصَّة باسم "خطر القنبلة الدِّيموغرافيَّة".
ومُنذ اطلاق عمليَّة أوسلو، وهناك العديد من المُؤرخين والكُتَّاب في إسرائيل يتحدَّثون، وبعضهم يتحدَّث بقلقٍ حقيقيٍّ، عن مسألة مرحلة ما بعد الصُّهيونيَّة وتحولاتها داخل إسرائيل، وتأثيراتها على الأمن القوميِّ الإسرائيليِّ ومستقبل دولة الكيان، بعد تحوُّلِها مِن دولةِ مشروعٍ يأتي إليها اليهود مِن كلِّ صوبٍ، ويرعاها الآباء الأوائل للمشروع، إلى دولةٍ عاديَّةٍ تُعاني مِن مختلف المُشكلات التي تعانيها مختلف الدول الأخرى.
ومن أخطر الظَّواهر التي بدأت إسرائيل تُعاني منها في هذا الاتِّجاه هو فقدان الأجيال الجديدة، وخصوصًا مِن مواليد مرحلة ما بعد التَّسوية مع مصر، لحماستهم للمشروع الصُّهيونيِّ، كونهم ظهروا إلى الوجود بعد قيام إسرائيل وتثبيت أركانها كدولةٍ، وباتوا يتعاملون معها كبلدٍ عاديٍّ بمشكلاته، وهو ما أظهر مشكلة الهجرة العكسيَّة إلى خارج فلسطين، مع تراجع نسبة الوافدين في العشرين عامًا الأخيرة.
ولقد خلق ذلك مشكلةً كبيرةً بالنسبة للمشروع الصهيونيِّ، فلم يعُد هناك ذات الحماسة الأولى من يهود العالم لرفد إسرائيل بالمورد البشريِّ الَّلازم، وهو ما يعني موت إسرائيل فعليًّا على المدى الطَّويل باعتبار تزايُد عدد السُّكَّان العرب، وباعتبار أنَّ المشروع الصُّهيونيَّ والتَّهديد الوجودي الذي كانت تواجهه إسرائيل خلال سنوات الحرب مع العرب، هما الضمانة الوحيدة لتماسُك الجبهة الدَّاخليَّة الإسرائيليَّة، وتوحيد صفوف شذَّاذ الآفاق من المهاجرين من مختلف أنحاء العالم إلى إسرائيل.
ولعلَّ مِن أبرز معالم انتهاء المشروع الصهيونيِّ بالفعل اعتراف قادة في الكيان الصُّهيونيِّ من أمثال رئيس الوزراء السَّابق أيهود أولمرت ووزيرة خارجيَّتِه السَّابقة وزعيمة حزب كاديما المُعارِض تسيبي ليفني بأنَّ مشروع إسرائيل الكبرى قد انتهى، كما ظهرت أدبيَّاتٌ عديدةٌ في إسرائيل وخارجها لكُتَّابٍ يهود يتحدَّثون عن إسرائيل ومصيرها في مرحلة ما بعد الصُّهيونيَّة، ومن بينها كتاب "تحديات ما بعد الصُّهيونيَّة" للكاتب والمؤرخ إفراييم نيمني.ولعلَّ مِن أبرز معالم انتهاء المشروع الصهيونيِّ بالفعل اعتراف قادة في الكيان الصُّهيونيِّ بأنَّ مشروع إسرائيل الكبرى قد انتهى،
وبطبيعة الحال تعرض هذه الوضعيَّة العديد مِن التَّساؤلات حول أسباب عدم استغلال العرب والمسلمين لهذه الفرصة التَّاريخيَّة التي تمر بها إسرائيل والمشروع الصُّهيونيِّ مِن حالةِ ضعفٍ كبيرةٍ، وتفضيل الأطراف الرَّسميَّة في العالم العربيِّ لفكرة التَّفاوُض مع إسرائيل عن محاولة العودة إلى طريق المواجهة معها.
نظرةٌ تاريخيَّةٌ:
هناك العديد من المحاور التي يُمكن الحديث من خلالها عن التَّحوُّلات الحادثة في طبيعة الكيان الصُّهيونيِّ كدولةٍ، المحور الأوَّل منها: هو التَّحوُّل مِن مفهوم وفلسفة الكيان المُحارِب، انطلاقًا مِن عقليَّة الاستيطان والتَّوسُّع إلى مفهوم الكيان السِّياسيِّ الذي يسعى إلى قيادة المنطقة والهيمنة عليها، من خلال امتلاك القوة الاقتصاديَّة والعلميَّة والعسكريَّة.
ففي البداية، كانت الدَّولة اليهوديَّة هي بالأساس "كيانٌ مُكافحٌ وسط بيئةٍ ترفض قيامه وتُعاديه" كما يقول الأكاديمي المصريُّ الدُّكتور محمد يحيى، وكانت حركة الاستيطان العمرانيُّ والزراعيُّ هو الأداة الأساسيَّة لغرس اليهود في الأرض من خلال بناء المستعمرات السَّكنيَّة والكيبوتزات الزِّراعيَّة.
وكانت فكرة التَّهديد والمحيط العربيِّ المسلم المُعادي هي الأساس في بَدء حركةٍ نشطةٍ لتسليح المستعمرات والكيبوتزات، ولكن الهدف الأساس لهذه الحركة مِن هو تهجير الفلسطينيِّين من أراضيهم والاستيلاء عليها منهم، وفرض وجودهم بقوة السِّلاح والإرهاب.
ولذلك كانت صورة الإسرائيليِّ في البداية هي صورة الفلاح المحارب الذي يفلح أرضه ويدافع عنها في وجه أعدائِه لكي يمنع تكرار حدوث الهولوكوست التي وقعت لليهود في أوروبا خلال الحرب العالميَّة الثَّانية.
وكانت هذه هي صورة حتى النُّخبة مِن قيادات المشروع الصُّهيونيِّ كان لهم هذه الصورة، من أمثال بن جوريون وموشي ديان وجولدا مائير وغيرهم، وكانت هذه الصُّورة هي التي اجتذبت تعاطُف الرأي العام في أوروبا والغرب، مع تشابهها الكبير مع الكيفيَّة التي أسَّس بها المهاجرون الأوروبيُّون الأوائل الولايات المتحدة.
كما كانت هذه الصورة بالنِّسبة لشريحةٍ كبيرةٍ مِن النُّخب الأوروبيَّة في شرق وغرب أوروبا في تلك الفترة التَّجسيد الحي للفكر الاشتراكيِّ والماركسيِّ الذي كان آخذًا في الانتشار في تلك الفترة التي شهدت قمَّة ازدهار حركة المزارع الجماعيَّة والتَّعاونيَّة في الاتِّحاد السُّوفيتي والصِّين
وعلى ذات النسق، تمَّت صياغة شخصيَّة جيل "الصَّابرا" الجديد المولود في إسرائيل، لكن مع الدخول في مرحلة ما بعد حرب 1967م، خرجت للعالم صورةٌ أخرى حول الكيان الصُّهيونيِّ، وأصبحت إسرائيل دولةً كيانًا سياسيًّا وليست مشروعًا كما كان الحال مِن قبل.
وحلَّت صورة إسرائيل ككيانٍ زراعيٍّ مدافعٌ عن نفسه إلى صورة كيانٍ عسكريٍّ صناعيٍّ في المقام الأوَّل، وتحوَّلت صورة الرَّمز الإسرائيليِّ مِن الفلاح المُحارِب إلى صورةٍ مدنيَّةٍ مختلفةٍ، مع تراجُع التَّهديد العربيِّ للوجود الإسرائيليِّ على المستوى العسكريِّ.
ولذلك بدأت إسرائيل في التَّحوُّل من مرحلة تثبيت الوجود إلى الانتشار كقوَّةٍ كُبرى، وأخذت تستفيد من المشروعات الأمريكيَّة في المنطقة في هذا الإطار، مثل للشرق الأوسط الكبير والشَّرق الأوسط الجديد وغزو العراق، وتوسَّع النُّفوذ الإسرائيليُّ الاقتصاديُّ والدبلوماسيُّ والعسكريُّ إلى أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبيَّة، بما في ذلك مناطق حوض النيل التي تعتبر العمق الإستراتيجيِّ الجنوبيِّ لمصر والعالم العربيِّ، بل وبدأت حركةً نشطةً للتطبيع مع الدِّول العربيَّة والإسلاميَّة.
وكان ممَّا دعَّم هذا التَّوجُّه الإسرائيليَّ عمليَّة أُوسلو مع مُنظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة، وهي المرحلة التي ظهر فيها مصطلح "ما بعد الصُّهيونيَّة"، ولكن هذه المحاولات وُجِهَت برفضٍ شعبيٍّ عارمٍ حتى في البلدان التي وقَّعَتْ على اتِّفاقيَّات سلامٍ مع إسرائيل مثل مصر والأردن، وكذلك في البلدان التي كانت حكوماتها تُخطِّط لإنشاء علاقاتٍ معها مثل دول الخليج والمغرب العربيَّة.