رحلة العمر (3-3)

alt

المدينة لها طعم آخر...هذا ما سيخبرك به معظم من زار الحرمين، و هذه تجليات الحديث"إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" أي: يرجع ويثبت ويستقر فيها. يغمرك إحساس غريب بالسكينة والسّكن والطمأنينة والأمان، وهي رحمة استقرت في المدينة بدعاء الرسول صلَّى الله عليه وسلم" اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار"
ستشعر بالاحتضان في المدينة، والمحتضن ليس أمك و لا أبوك، ولا أحب الناس إليك، إنه الحبيب فوق الأحبة، و القريب أكثر من كل الأقارب، والسويداء من نفسك، إنه الذي كان أبو بكر يناديه بأبي أنت وأمي، إنه الذي وقف ببابه الصحابي يبكي شاكيا أنه لا يستطيع فراقه في الدنيا عندما يدخل بيته فكيف باختلاف منازلهما في الآخرة، إنه الذي قال عنه عمرو بن العاص"ما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له و لو سئلت أن أصفه ما أطقت"، إنَّه الذي كان الصحابة يظنون أن كل واحد منهم الأحب إليه، إنه الذي كان يتفقد أصحابه و يعز عليه ألمهم و عنتهم فلما علم باعتزال أحدهم في حفرة في الجبل بذنب أصابه أرسل إليه عمر و سلمان يحضرانه فطلب منهما أن يدخلاه على الرسول و هو في الصلاة، فلما سلم الرَّسول قال له:ما غيبك يا ثعلبة؟ قال:ذنبي يا رسول الله، قال الرسول:أفلا أدلك على آية يمحو بها الله الذنوب و الخطايا؟ قال: بلى ، قال: قل "ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار" قال الصحابي: ذنبي أعظم، قال رسول الله:بل كلام الله أعظم، ثم غاب الصَّحابي عن مجلس الرسول حتى أخبروه أنه شارف على الهلاك من همه بذنبه، فزاره الرَّسول ووضع رأسه في حجره فرفع الصحابي رأسه،فقال له رسول الله:لم فعلت ذلك؟ قال: لأنه ملآن بالذنوب، سأله رسول الله: مما تشتكي؟ أجاب: مثل دبيب النمل بين لحمي و عظمي و جلدي، قال الرسول: فما تشتهي؟ قال:مغفرة ربي،فنزل جبريل و قال "يا محمد إن ربك يقرؤك السلام و يقول لك "لو أن عبدي هذا لقيني بقراب الأرض خطايا للقيته بقرابها مغفرة" فأعمله النبي بذلك فصاح صيحة مات بعدها فصلى عليه رسول الله و لما انتهى مشى على أطراف أصابعه لكثرة من شاركوا من الملائكة في تشييعه
و صدق الشاعر إذ وصفه:
       كأنك من كل النفوس مركب   فأنت إلى كل القلوب حبيب
تزوره وأنت مذنب مفرط بسنته فلا تشعر بالصد و لا بالرد، و هذا رسول الله فكيف بربك سبحانه التواب العفو الرءوف؟ و له المثل الأعلى فوق خلقه جميعا تأتيه وأشواقك تتفتق من جنبات روحك و لكنه صلى الله عليه و سلم سبقك بالشوق و أخبر عنك خيرة صحابته و باهى بك حين قال لهم " اشتقت إلى أحبابي...أقوام يأتون بعدي يؤمنون بي و لم يروني" و قال في حديث آخر "إن من أشد أمتي حبا لي ناس يأتون بعدي يود أحدهم لو يراني بأهله و ماله"
ولكنَّهم منعونا عنك يا رسولَ الله، وأنت الذي أوصيت "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، لم يمنعونا بالكامل ولكنَّهم ضيقوا علينا في زيارة الروضة والصَّلاة فيها، والتضييق من أشكال المنع حيث تنتظر آلاف النساء بالساعات بعد كل فجر وظهر وعشاء للسَّلام والصَّلاة في روضة من رياض الجنة، و لكنهن يخرجن منها و كأنما خرجن من حرب وتتحوَّل التجربة الروحانية التي يجب أن تكون غاية في الذوق والأدب وخفض الصوت والرأس في حضرة المصطفى وصاحبيه رضوان الله عليهما إلى تجربة لصراع البقاء والحصول على موطئ قدم، والوقوف بوجه التيار الجارف من البشر!! و تتحوَّل صلاة السكينة في الروضة إلى صلاة خوف لا تهنأ المرأة فيها بركوع أو سجود أو دعاء مخافة أن تتطأ الجموع الغفيرة من النساء رقبتها! و لكن ماذا عن كبار السن و الحوامل و الأطفال؟ هؤلاء طبعا لا مكان لهن في روضة نبيهن،فالقويات الشديدات لا يجدن مكان فكيف من بهن ضعف؟!
في الصورة المقابلة لا تجد في جانب الرجال شيئا من هذه المعاناة، و لو فتحت التلفاز على الحرم النبوي لوجدت الفسحة في المكان و الهدوء في العبادة! فهل صلاة الرجل، في غير الجماعة، لها أجر أعظم من صلاة المرأة؟! فالرجل يأخذ أجران مثلا لأنه رجل و المرأة تأخذ أجرا واحدا لأنها امرأة، و بناء على تفاوت الأجور تتفاوت الفسحة في المكان؟!
ألم يفسح و يسمح الرَّسول للنساء بالصَّلاة في المسجد حتى كن يخرجن لصلاة الفجر كما جاء في قصة الحجاب، و كن يأتين مع أطفالهن و كان الرسول يترفق و لا يطيل في الصلاة عندما يسمع بكاء الأطفال حتى لا تنشغل قلوب الأمهات بالأولاد؟ نعم لقد قال صلَّى الله عليه وسلم إنَّ صلاة المرأة في بيتها خير من المسجد، ولكنَّه مع ذلك لم يقيدها و لم يحد من حريتها في الصلاة في المسجد النبوي التي تعدل الصلاة فيه أجر ألف صلاة و في المسجد الحرام بمائة ألف.
فمن إذن يتبع علماء وفقهاء هذا العصر في التضييق على المرأة؟ هل يتبعون سنة الرسول الذي لم يستثني المرأة من أي مجالات الحياة بما فيها أعلى سنام الإسلام في الحرب و الجهاد؟ أم أنها رؤى شخصية متلونة بعادات قبلية لا أساس لها من الدين؟
قد أتفق معهم في قيام النساء ببعض البدع و الخرافات و لكن هل التضييق هو الذي سيعالج هذه الجهالة؟ إنَّ من يريد أن يعصي الله سيجد منفذاً ينفذ منه، ومن أراد أن يطيعه سيحتسب على من منعوه من أداء الطاعة كما يحب الله وحتى يحس بحلاوتها في قلبه
لقد جهلت النساء قبل الإسلام فبكت الخنساء وناحت وشقت الجيوب على أخيها صخر وملأت التاريخ والشعر عويلاً عليه، فلما تمكن الإسلام في قلبها زفّت أربعة شهداء من أبناءها وقالت: (الحمد لله الذي شرفني بشهادتهم و أسأل الله أن يجمعني بهم في الجنة).
هند بنت عتبه آكلة الكبود التي حرضت الرجال بالغناء والدفوف يوم أحد، ودبرت قتل حمزة هي نفسها التي شجعت المسلمين بعد إسلامها على قتال الروم يوم اليرموك.
إنَّه الإيمان الذي جاء به محمد للرجال و النساء متى تمكن في القلب زالت عنه أدران الجاهلية وبقايا الخزعبلات، هذه الجهالة لا تزول بالتضييق و التحديد و لا بموعظة قصيرة تلقيها واعظة على فضلها، إنها تحتاج لجهد دؤوب وسنين كالسنين التي قضاها سيّدنا محمّد في تربية صحابته.
نحزن عندما نتذكر أنَّ أمنا عائشة رضي الله عنها آثرت رجلاً هو عمر بن الخطاب بمكانها و غرفتها و جوار أحب الناس إليها ليدفن بجانب صاحبيه و نحن بناتها نعاني الأمرين حتى ندخل روضة الرسول و نسلم عليه، و بدل أن نبكي بدموع الشوق والتقصير نبكي دموع الخوف و الإبعاد!!
لم يستوصوا بنا خيرا يا رسول الله كما أمرتهم في الحديث ثلاثا "استوصوا بالنساء خيرا فإنهن أمهاتكم و بناتكم و خالاتكم" و ضيقوا علينا في روضتك، و لكن الحمد لله أن سنتك ما زالت لنا نبراسا هاديا و بلسما شافيا كلما جهل علينا الجاهلون
نشهد يا رسولَ الله أنك أدَّيت الأمانة، ونسأل الله العفو إن لم نحفظها كما سلمتها لنا، وبلغت الرسالة كاملة ولكنَّنا ما أخذناها بقوَّة، ونصحت للأمَّة التي فرطت بنهجك وعبدت ربك حتى آتاك اليقين فجزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن قومه، وأعاننا على التمسك بسنتك و نيل الفضل الذي أخبرت عنه "المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد" وأكرمنا بشربة ماء من حوضك الشريف بيدك الكريمة لا نظمأ بعدها أبدا
عليك الصَّلاة والسَّلام يا حبيب الله، ما أبصرت عين نظر وما سمعت أذن بخير.

 

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

alt

بكري الطرابيشي .. أعلى إسناد على وجه الأرض

كان شيخاً جليلاً موقراً ذا تواضع جمّ، يجلس في حلقته الكبير والصَّغير .. والعالم والمتعلّم …