قال الله عز وجل: «والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعلموا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر».
سور ة العصر من أقصر سور القرآن، فهي أربع عشرة كلمة، في ثلاث آيات، لكنها سورة عظيمة في حقائقها ودلالاتها، وصدق إمامنا الشافعي رضي الله عنه عندما قال عنها: «لو تدبر المسلمون هذه السورة لوسعتهم..».
أقسم الله فيها بالعصر، على أن كل إنسان خاسر في هذه الدنيا، وأنه لا ينجو من الخسارة إلا أناس أبرار، اتصفوا بأربع صفات: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
والعصر -الذي أقسم الله به- هو الزمان والوقت، على مستوى الفرد والجماعة، فلكل شخص عصره ووقته، المتمثل في عمره الذي حدده الله له، ولكل جماعة وأمة عصرها الذي حدده الله لها، وإذا انتهى عصر الإنسان وعمره دنا أجله فمات، وإذا انتهى عصر الأمة جاء أجلها، فماتت حضارياً.
اعصروا أوقاتكم وأعماركم، وأحسنوا توظيفها بالإنجازات والفضائل، وتخلوا عن الكسل
وعصر الشيء: ضغطه والشد عليه، لإخراج ما فيه، فأنت عندما تريد إخراج الماء من الثوب، فإنك تعصره عصراً، أي: تضغط عليه ضغطاً، وتشد عليه، فتخرج الماء منه.. وحكمة تسمية العمر والوقت عصراً، الالتفات إلى أهمية «عصر» الوقت، وحسن الضغط عليه، لحسن الاستفادة منه، ووجوب الشد والضغط على العمر، واستخراج الفائدة منه، وعدم تضييعه وإهماله، وتركه يذهب بسرعة بدون فائدة.
كثيرون هم الذين يبددون أعمارهم، ويضيعون أوقاتهم، ولا يمضونها في الأمور النافعة المفيدة، تمر بأحدهم الساعات والأيام، والشهور والأعوام، وهو في التافه من الأعمال، وعندما تحاول «عصر» عمر أحدهم البالغ سبعين سنة مثلاً، والبحث عن النافع المفيد فيه، فإنك لا تجد إلا بضع ساعات! فهذا إنسان تافه خاسر.
أما المؤمن فإنه «يعصر» وقته ويخطط له، ويملؤه بالأمور العظيمة، و«يعصر» عمره، ويوظفه لصالح الأعمال والأقوال، وإذا وزعت سنوات عمره وساعات وقته على إنجازاته، فإنك تجد كأن السنوات ضوعفت له، فإذا عاش سبعين سنة «معصورة»، وجدت إنجازاتها تملأ مائتي سنة مثلاً!!
اعصروا أوقاتكم وأعماركم، وأحسنوا توظيفها بالإنجازات والفضائل، وتخلوا عن الكسل، وتذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها»!
إن الإيمان «القرآني» الحي يدفع صاحبه إلى العمل الجاد، فما أن يستقر هذا الإيمان في القلب حتى يسعى إلى إثبات وجوده في الخارج في صورة عمل صالح
كل الناس خاسرون، إلا الذين عصروا أعمارهم: «إن الإنسان لفي خسر» من «الإنسان» اسم جنس، ينطبق على كل شخص من بني آدم، رجلاً كان أو امرأة، مهما كان علمة وعمله، زمانه ومكانه، وتمدنه وتطوره، وأوضح نموذج لهذه الحقيقة ما نراه من أحوال الناس في هذه الأيام، فكل الناس من المشرق والمغرب والشمال والجنوب خاسرون، إلا المتواصين بالحق والصبر.
واستثنت سورة العصر من الخسارة الذين اتصفوا بالصفات الإيجابية: «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر».
الإيمان الكامل هو أساس شخصياتهم وعقلياتهم ونفسياتهم وكياناتهم، وإذا كان الأساس القوي المتين هو الذي يحمل البناء العالي الكبير، وأنه لا عمارة بدون أساس، فإن الإيمان هو أساس كل شيء في الشخصية الإسلامية المفلحة الرابحة.
والإيمان الموجه الحي هو الذي ينتج العمل الصالح، لأنه يأبى أن يبقى محجوزاً في القلب والضمير، مختفياً في المنطقة الذهنية الباردة عند الإنسان.. إن الإيمان «القرآني» الحي يدفع صاحبه إلى العمل الجاد، فما أن يستقر هذا الإيمان في القلب حتى يسعى إلى إثبات وجوده في الخارج في صورة عمل صالح.
والتعبير عن الصالحات بالجمع ملحوظ: «وعملوا الصالحات»، لأنه يقرر أن الصالحات كثيرة عديدة، تملأ ساحة واسعة في حياة المؤمن ومحيطه، وتستغرق زماناً طويلاً من عمره وحياته، ما بين صالحات فردية وجماعية وصالحات خاصة وعامة، وصالحات عبادية وفكرية، وسياسية واقتصادية، وعلمية ودعوية، واجتماعية وأسرية بمعنى أنه يمكن للمسلم أن يبقى يعمل الصالحات أربعاً وعشرين ساعة يومياً، طيلة عمره، فهو يخرج من عمل صالح إلى عمل صالح، ولا يمل ذلك، لأنه يُنوِّع هذه الصالحات تنويعاً مرغوباً.
وبين هؤلاء المؤمنين العاملين الإيجابيين تواصل وتعاون، والتقاء واتفاق إنهم يلتقون للدراسة والبحث، والنظر والتحليل، فيتواصون بالثبات على الحق، والصبر عليه.
الفعل الماضي «تواصوا» يدل على تواصلهم والتقائهم وتعاونهم، وحصول تفاعل وحيوية في التواصي، وذلك بأن يوصي بعضهم بعضاً، بأن يقول الأخ لأخيه: أوصيك بكذا ويقول له أخوه: وأنا أوصيك بكذا، والتواصي دليل اهتمام أحدهم بأخيه، وتفكيره به، وحرصه على تحقيق مصلحته، وتقديم ما ينفعه، وإبعاد ما يضره عنه.
علينا أن نحيي بيننا «فقه التواصي»، فنتواصى بالثبات على الحق، ونتواصى بجميل الصبر عليه
ولا يمكن التواصي بالحق إلا بعد معرفته ودراسته، والعلم به فهو يحتاج إلى معرفة واطلاع وثقافة وعلم. والحق هو الإسلام بعمومه وشموله، وأصوله المقررة في الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة.
وتزداد أهمية التواصي بالحق والثبات عليه وقت اشتداد الهجمة من الأعداء على الإسلام، وتحريفه في تصور المسلمين، فهذا يدفع المؤمنين إلى العلم بالإسلام، وحسن فهمه ومعرفته والالتزام به، تطبيقاً وتنفيذاً، واهتماماً وتفكيراً، وحركة ودعوة.
ومن التواصي الفاعل بينهم التواصي بالصبر، فكلما لاقى مؤمن أخاه يقول له: أوصيك بمعرفة الحق، وبالصبر على حمله، وتحمل آلام ذلك، كآلام القبض على الجمر، والقابضون على «جمر الحق» هم الذين يتواصون بالصبر على آلام ذلك القبض.
علينا أن نحيي بيننا «فقه التواصي»، فنتواصى بالثبات على الحق، ونتواصى بجميل الصبر عليه.
المصدر: صحيفة السبيل اليومية الأردنية